[ 359 ] هو أعظم منه والدرجة العليا أن يتركها طوعا ويزهد في زهده ولا يظن أنه ترك شيئا لعلمه بأن الدنيا لا شئ كمن ترك قذرة لأجل جوهر ثمين فإنه لا يرى أن ذلك معاوضة ولايرى أنه ترك شيئا، فإن الدنيا بالقياس إلى الاخرة أخس من قذرة بالقياس إلى جوهر ثمين وهذا هو الزهد الحقيقي وسببه كما المعرفة بخسة الدنيا وكما الاخرة، وأما الثاني فدرجاته أيضا ثلاثة الدرجة السفلى أن يترك المحرمات الشرعية والأعمال القبيحة، والدرجة الوسطى أن يترك مع ذلك الرذائل النفسانية مثل الشهوة والغضب والكبر وحب الرئاسة وأمثالها، والدرجة العليا أن يترك جميع ما سول الله جل شأنه وهو في هذه الدرجة يزهد في نفسه أيضا ولا ترى في الوجود إلا هو وهو معنى الوحدة. وأما الثالث فدرجاته أيضا ثلاثة الدرجة السفلى أن يكون الغرض من زهده هو النجاة من النار ومن سائر الالام كعذاب القبر مناقشة الحساب وخطرات الصراط وبواقي الأهوال المتعلقة بالقيامة، والدرجة الوسطى أن يكون الغرض مع ذلك الرغبة في ثواب الله ونعيم الجنة وللذات الموعودة مثل الحور والقصور وغيرها، والدرجة العليا أن لا تكون له رغبة إلا وجه الله ولقاء ولا يلتفت إلى سواه وهذا زهد المحبين ورغبة العاشقين (1) ________________________________________ 1 - قوله " ولا يلتفت إلى سواه زهد المحبى " ربما يختلج في أذهان سفلة الناس أن المحروم من لذة الأكل والنكاح محروم من السعادة ويلزم من ذلك أن تكون الملائكة المقربون والأرواح المقدسة القدسية أنقض من الحيوان في اللذات والسعادات بل ربما يتوهم بعض المتفلسفين أن علم هؤلاء المقربين أنقض من علوم الحيوانات العجم في الكيفية لأن المحسوسات إنما ترك بآلات مادية مركبة من هذه العناصر الأربعة وليس لهم حواس بهذه الصفة فلا يدركون النور والألوان وجمال الطبيعة وزينتها والاصوات وغير ذلك وفاق عليهم الحيوان والإنسان بهذه المزية ولو كان صحيحا لكان الواجب تعالى أيضا مثلهم في ذلك وكيف يتوهم عاقل أن من خلق طبقات العين وشكل الجليدية ولون العنبية وركب عليها الأشفار والحواجب لا يكون عالما بالنور وخواصه وهكذا ساير الأعضاء. والصحيح أن إدراك الأشياء لا يتوقف على وجود جسم ومادة تتأثر بل هي مانعة عن الإدراك ذاتا ولكن الله تعالى لما قدر ترقى الوجود من أسفل مراتبه وهو المادة إلى أعلى درجاته وهو العقل فلم يكن بدمن أن يمر في طريقه على مادة يأخذ طرفا من الإدراك فصار حيوانا وإنسانا وهو منزل بين عدم الإدراك المادي والإدراك الكامل العقلي فيترقي تدريجا في الإدراك ويضعف في المادية فيصير إدراكا صرفا يجتمع فيه جميع السعادات إذ ما من كمال ولذة وبهجة إلا وسببها الإدراك ولا يعقل أن يكون الزاهد المعرض عن الدنيا السافلة المقبل بكليته إلى أشرف الموجودات وأعزها وأكلهما وإدراك عين الكمال أدون في السعادة والبهجة من المنهمك في الشهوات خصوصا مع مشاهدة أمارات الخلود والبقاء والأمن من الموت الذي هو أشد المخاوف على الإحياء والإنسان إذا إرتقى إلى مقام التحقق بالعقل ليس كمن كان في بيت له شبابيك من الحواس يطلع منها على الأشياء ثم حبس وسد عليه تلك الشبابيك ومنع من إدراك الموجودات بل بمنزلة من يخرق حواجب المكان والزمان ويحضر عند كل شئ وفق لإدراكه والإتصال به وبالجملة يوجد للنفوس الناطقة بد لا عن الحواس المادية ما يدرك بها الأشياء أكمل مما كانت تدركه كما ينفتح للنائم عين = (*) ________________________________________