[ 255 ] واللام واسمية الجملة فكذبهم الله تعالى لعلمه بعدم المواطاة بين قولهم وقلبهم. أو أنهم لكاذبون في دعوى الاستمرار المستفاد من نشهد، أو أنهم لكاذبون في حلفهم على عدم النهي عن الانفاق على فقراء المهاجرين أو أنهم لكاذبون يعني إن شأنهم الكذب فالتكذيب ليس في هذا الخبر بل مطلق فكأنه قيل: إنهم وأن صدقوا في هذا الخبر لكن صدقهم فيه لا يخرجهم من زمرة الكاذبين فإن الكذوب قد يصدق واستدل الجاحظ بقوله تعالى حكاية عن المشركين * (افترى على الله كذبا أم به جنة) * فانهم حصروا خبر النبي بالحشر والنشر والتوحيد في كونه كاذبا أو كلام مجنون ولا شك أن المراد بالثاني غير الكذب لأنه قسيمه وقسيم الشئ يجب أن يكون مباينا له وغير الصدق لاعتقادهم عدمه ولعدم دلالة الثاني عليه فقد أثبتوا بين الصدق والكذب واسطتين إحديهما عدم مطابقة خبر النبي (صلى الله عليه وآله) للواقع مع شكه في المطابقة والاخرى عدم مطابقته له مع اعتقاده المطابقة بأن يكون اعتقادهم الفاسد أن عدم مطابقة هذا الخبر بلغ بمرتبة لا يخفى على من له شايبة عقل فالشك في المطابقة لا يكون إلا من مجنون فكيف اعتقاد المطابقة، ولا شك أن الواسطة إنما يكون إذا اعتبر في الصدق والكذب مطابقة الخبر للواقع والاعتقاد جميعا وعدمها لهما إذ لا واسطة عند اعتبار المطابقة للواقع وعدمها ولا عند اعتبار المطابقة للاعتقاد وعدمها، واجيب بأن ترديدهم لخبره (صلى الله عليه وآله) ليس بين الكذب المطلق والاخبار حالة الجنون، بل إنما هو بين الافتراء وهو الكذب عن عمد وعدمه فمعنى قوله * (أم به جنة) * أم لم يفتر فعبروا عن عمد الافتراء بالجنة كناية عن أن المجنون لا يفترى فقد جعلوا قسيم الكذب عن عمد الكذب لا عن عمد فيكون مقصودهم حصر خبره الكاذب في نوعيه ولما كان هنا فوائد جمة وفروع متكثرة لا يتيسر القول بها إلا بتحقيق معنى الصدق والكذب أطنبنا القول فيه ومن تلك الفوائد لو أخبرك أحد بشئ. فقلت: إن كنت صادقا فلله علي كذا فإن كان مطابقا للواقع فقط لزمك الوفاء به على الأول دون الأخيرين وإن كان مطابقا للاعتقاد فقط لزمك الوفاء به على الثاني دون الآخرين وإن كان مطابقا لهما لزمك الوفاء عند الجميع ومنها لو شهد عليك رجل فقلت هو صادق فهو إقرار على الأول والأخير دون الثاني، ومنها لو حلف رجل أن لا يكذب ثم أخبر بما لم يكن مطابقا للواقع فقط أو للاعتقاد فقط أولهما فإنه في الأول يحنث على المذهب الأول دون الأخيرين، وفي الثاني يحنث على المذهب الثاني دون الباقيين، وفي الثالث عند الجميع، ومنها لو حلف أن لا يتكلم اليوم بكلام صادق وكاذب فإنه يحنث إذا تكلم على الأولين دون الأخير فإن فيه مفرا عن الصدق والكذب ومنها لو حلف أن لا يعطي كاذبا فانه يختلف فيه الحكم أيضا كما لا يخفى وأمثال ذلك كثيرة، واعلم أن الصدق فضيلة عظيمة داخلة تحت فضيلة العفة وقد وقع مدحه ومدح المتصف به في مواضع من ________________________________________