@ 189 @ وعلته : إن حلفت بالله بررت ، لم يصح وذلك كما تقول : لا تضرب زيداً لئلا يؤذك ، فانتفت الاذاية للامتناع من الضرب ، والمعنى : إن لم تضربه لم يؤذيك ، وإن ضربته أذاك ، فلا يترتب على الامتناع من الحلف انتفاء البر ، ولا على وجوده ، بل يترتب على الامتناع من الحلف وجود البر ، وعلى وقوع الحلف انتفاء البر ، وهذا الذي ذكرناه يؤيد القول بان التقدير : إرادة أن تبروا ، لأنه لا يعلل الامتناع من الحلف بإرادة وجود البر ، ويتعلق منه الشرط والجزاء ، تقول : إن حلفت لم تبر ، وإن لم تحلف بررت . .
وقد شرح بعض العلماء هذا المعنى فقال : إن تبروا وتتقوا وتصلحوا علة لهذا النهي ، أي : إرادة أن تبروا ، والمعنى إنما نهيكم عن هذا لما في توقي ذلك من البر والتقوى والإصلاح ، فتكونون معاشر المؤمنين بررة أتقياء مصلحين في الأرض غير مفسدين ، فإن قلت : كيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى واللإصلاح بين الناس ؟ قلنا : لأن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تبارك وتعالى ، أعظم وأجل أن يستشهد باسمه المعظم في طلب الدنيا ، إن هذا من أعظم أبواب البر . .
وأما معنى التقوى فظاهر ، لأنه اتقى أن يصدر منه ما يخل بتعظيم الله تعالى وأما الإصلاح بين الناس ، فلأن الناس متى اعتقدوا فيه كونه معظماً لله تعالى إلى هذا الحد ، محترزاً عن الإخلال بواجب حقه ، اعتقدوا فيه كونه معظماً لله ، وكونه صادقاً بعيداً من الأغراض الفاسدة ، فيتقبلون قوله ، فيحصل الصلح يتوسطه إنتهى هذا الكلام . .
وفي ( المنتخب ) وهو بسط ما قاله الزمخشري قال : ومعناها على الأخرى يزيد على أن يكون عرضة ، بمعنى معرضاً للأمر ، قال : ولا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم فتتبذلوه بكثرة الحلف به ، ولذلك ذم من أنزل فيه : { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } باشنع المذام ، وجعل الحلاف مقدمتها ، وأن تبروا ، علة للنهي أي : إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا لأن الحلاف مجترىء ، على الله ، غير معظم له ، فلا يكون براً متقياً ، ولا يثق به الناس ، فلا يدخلونه في وساطتهم وإصلاح بذات بينهم . .
وقيل : المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين ، لتبروا المحلوف لهم ، وتتقوهم وتصلحوا بينهم بالكذب . روي هذا المعنى عن ابن عباس ، فقيد المعلوم بالكذب ، وقيد العلة بالناس ، والإصلاح بالكذب ، وهو خلاف الظاهر . .
وقال الزمخشري : ويتعلق : أن تبروا ، بالفعل و : بالعرضة ، أي : ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا . إنتهى . ولا يصح هذا التقدير ، لأن فيه فصلاً بين العامل والمعمول بأجنبي ، لأنه علق : لأيمانكم ، بتجعلوا ، وعلق : لأن تبروا بعرضة ، فقد فصل بين : عرضة ، وبين : لأن تبروا بقوله : لأيمانكم ، وهو أجنبي منهما ، لأنه معمول عنده لتجعلوا ، وذلك لا يجوز ، ونظير ما أجازه أن تقول : أمرر وأضرب بزيد هنداً ، فهذا لا يجوز ونصوا على انه لا يجوز : جاءني رجل ذو فرس راكب أبلق ، لما فيه من الفصل بالأجنبي . .
والذي يظهر لي أن تبروا ، وفي موضع نصب على إسقاط الخافض ، والعمل فيه قوله : لأيمانكم ، التقدير : لأقسامكم على أن تبروا ، فنهوا عن ابتذال اسم الله تعالى ، وجعله معرضاً لأقسامهم على البر و . التقوى والإصلاح اللاتي هن أوصاف جميلة ، لما نخاف في ذلك من الحنث ، فكيف إذا كانت أقساماً على ما تنافي البر والتقوى والإصلاح ؟ وعلى هذا يكون الكلام منتظماً واقعاً كل لفظ منه مكانه الذي يليق به ، فصار في موضع : أن تبروا ، ثلاثة أقوال : الرفع على الابتداء ، والخلاف في تقدير الجر ، والجر على وجهين : عطف البيان ، والبدل والنصب على وجهين : إما على المفعول من أجله على الاختلاف في تقديره ، وإما على أن يكون معمولاً : لأيمانكم ، على إسقاط الخافض . .
{ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ختم هذه الآية بهاتين الصفتين لأنه تقدم ما يتعلق بهما ، فالذي يتعلق بالسمع الحلف لأنه من المسموعات ، والذي يتعلق بالعلم هو إرادة البر والتقوى والإصلاح إذ هو شيء محله القلب ، فهو من المعلومات ، فجاءت هاتان الصفتان منتظمتين للعلة