@ 656 @ الجملة السابقة بهذه الحال ، فهو ينافي استغراق الأحوال حتى هذه الحال . فهما معنيان مختلفان ، والفرق ظاهر بين : أكرم زيداً لو جفاك ، أي إن جفاك ، وبين أكرم زيداً ولو جفاك . وانتصاب شيئاً على وجهين : أحدهما : على المفعول به فعم جميع المعقولات ، لأنها نكرة في سياق النفي فتعم ، ولا يمكن أن يكون المراد نفي الوحدة فيكون المعنى لا يعقلون شيئاً بل أشياء . والثاني : أن يكون منصوباً على المصدر ، أي شيئاً من العقل ، وإذا انتفى ، انتفى سائر العقول ، وقدم نفي العقل ، لأنه الذي تصدر عنه جميع التصرّفات ، وأخر نفي الهداية ، لأن ذلك مترتب على نفي العقل ، لأن الهداية للصواب هي ناشئة عن العقل ، وعدم العقل عدم لها . .
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } : لما ذكر تعالى أن هؤلاء الكفار ، إذا أمروا باتباع ما أنزل الله ، أعرضوا عن ذلك ورجعوا إلى ما ألفوه من اتباع الباطل الذي نشؤوا عليه ووجدوا عليه آباءهم ، ولم يتدبروا ما يقال لهم ، وصموا عن سماع الحق ، وخرسوا عن النطق به ، وعموا عن إبصار النور الساطع النبوي . ذكر هذا التشبيه العجيب في هذه الآية منبهاً على حالة الكافر في تقليده أباه ومحقراً نفسه ، إذ صار هو في رتبة البهيمة ، أو في رتبة داعيها ، على الخلاف الذي سيأتي في هذا التشبيه . .
وهذه الآية لا بد في فهم معناها من تقدير محذوف . واختلفوا ، فمنهم من قال : المثل مضروب بتشبيه الكافر بالناعق . ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه الكافر بالمنعوق به ، ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه داعي الكافر بالناعق ، ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه الداعي والكافر بالناعق والمنعوق به . فعلى أن المثل مضروب بتشبيه الكافر بالناعق ، قيل : يكون التقدير : ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم وعقلهم ، كمثل الرّعاة يكلمون البهم ، والبهم لا تعقل شيئاً . وقيل : يكون التقدير : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم ، كمثل الناعق بغنمه ، فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في عناء ونداء ، وكذلك الكافر ليس له من دعائه الآلهة وعبادته الأوثان إلا العناء . قال الزمخشري : وقد ذكر هذا القول ، إلا أن قوله : { إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء } لا يساعد عليه ، لأن الأصنام لا تسمع شيئاً . انتهى كلامه . ولحظ الزمخشري في هذا القول تمام التشبيه من كلّ جهة ، فكما أن المنعوق به لا يسمع إلا دعاء ونداء ، فكذلك مدعو الكافر من الصنم ، والصنم لا يسمع ، فضعف عنده هذا القول . ونحن نقول : التشبيه وقع في مطلق الدعاء ، لا في خصوصيات المدعو ، فشبه الكافر في دعائه الصنم بالناعق بالبهيمة ، لا في خصوصيات المنعوق به . وقيل في هذا القول ، أعني قول من قال التقدير : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم وأصنامهم أن الناعق هنا ليس المراد به الناعق بالبهائم من الضأن أو غيرها ، وإنما المراد به الصائح في جوف الجبال ، فيجيبه منها صوت يقال له الصدا ، يجيبه ولا ينفعه . فالمعنى : بما لا يسمع منه الناعق إلا دعاءه ونداءه ، قاله ابن زيد . فعلى القولين السابقين يكون الفاعل بيسمع ضميراً يعود على ما ، وهو المنعوق به . وعلى هذا القول يكون الفاعل ضميراً عائداً على الذي ينعق ، ويكون الضمير العائد على ما الرابط للصلة بالموصول محذوفاً لفهم المعنى تقديره : بما لا يسمع منه ، وليس فيه شروط جواز الحذف ، لأن الضمير مجرور بحرف جر الموصول بغيره . واختلف ما يتعلقان به ، فالحرف الأول باء تعلقت بينعق ، والثاني من تعلق بيسمع . وقد جاء في كلامهم مثل هذا ، قال : وقيل المراد بالذين كفروا : المتبوعون لا التابعون ، ومعناه : مثل الذين كفروا في دعائهم أتباعهم ، وكون أتباعهم لا يحصل لهم منهم إلا الخيبة والخسران ، كمثل الناعق بالغنم .