@ 613 @ الزمخشري . { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } تقدم شرح هذه الجملة ، وسيقت بعد الجملة الشرطية المتضمنة للبعث والجزاء ، أي لا يستبعد إتيان الله تعالى بالأشلاء المتمزقة في الجهات المتعددة المتفرقة ، فإن قدرة الله تتعلق بالممكنات ، وهذا منها . وقد تقدم لنا أن مثل هذه الجملة المصدرة بأن تجيء كالعلة لما قبلها ، فكان المعنى : إتيان الله بكم جميعاً لقدرته على ذلك . .
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } : لما ذكر تعالى أن لكل وجهة يتولاها ، أمر نبيه أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام من أي مكان خرج ، لأن قوله : { فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ } ظاهره أنه أمر له باستقبال الكعبة وهو مقيم بالمدينة . فبين بهذا الأمر الثاني تساوي الحالين إقامة وسفراً في أنه مأمور باستقبال البيت الحرام ، ثم عطف عليه : { وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } ، ليبين مساواتهم في ذلك ، أي في حالة السفر ، والأولى في حالة الإقامة . وقرأ عبد الله بن عمير : ومن حيث بالفتح ، فتح تخفيفاً . وقد تقدم القول في حيث في قوله : { حَيْثُ شِئْتُمَا } . .
{ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ } : هذا إخبار من الله تعالى بأن استقبال هذه القبلة هو الحق ، أي الثابت الذي لا يعرض له نسخ ولا تبديل . وفي الأول قال : { وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ * فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ } ، حيث كان الكلام مع سفهائهم الذين اعترضوا في تحويل القبلة ، فردّ عليهم بأشياء منها : أن علمائهم يعلمون أن تحويل القبلة حق من عند الله ، وختم آخر هذه الآية بما ختم به آخر تلك من قوله : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } في امتثال هذا التكليف العظيم الذي هو التحويل من جهة إلى جهة ، وذلك مهو محض التعبد . فالجهات كلها بالنسبة إلى البارىء تعالى مستوية ، فكونه خص باستقبال هذه زماناً ، ونسخ ذلك باستقبال جهة أخرى متأبدة ، لا يظهر في ذلك في بادي الرأي إلا أنه تعبد محض . فلم يبق في ذلك إلا امتثال ما أمر الله به ، فأخبر تعالى أنه لا يغفل عن أعمالكم ، بل هو المطلع عليها ، المجازي بالثواب من امتثل أمره ، وبالعقاب من خالفه . وجاء في قوله : { الْحَقُّ مِن رَّبّكَ } في المكانين ، وفي قوله : { وَمَا اللَّهُ } في المكانين ، فحيث نبه على استدلال حكمته بالنظر إلى أفعاله ، ذكر الرب المقتضي للنعم ، لننظر منها إلى المنعم ، ونستدل بها عليه ، ولما انتهى إلى ذكر الوعيد ، ذكر لفظ الله المقتضي للعبادة التي من أخل بها استحق أليم العذاب . .
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } : ظاهر هذه الجملة أنها كررت توكيداً لما قبلها في الآية التي تليها فقط ، لا أن ذلك توكيد للآية الأولى ، لأنا قد بينا أن الأولى في الإقامة ، والثانية في السفر ، وأما الثالثة فهي في السفر ، فهي تأكيد للثانية . وحكمة هذا التأكيد تثبيت هذا الحكم ، وتقرير نسخ استقبال بيت المقدس ، لأن النسخ هو من مظان الفتنة والشبهة وتزيين الشيطان للطعن في تبديل قبلة بقبله ، إذ كان ذلك صعباً عليهم ، فأكد بذلك أمر النسخ وثبت . وكان التأكيد على ما قررناه بتكرير هذه الجمل مرتين ، لأن ذلك هو الأكثر المعهود في لسان العرب ، وهو أن تعاد الجملة مرة واحدة . وقال المهدوي : كررت هذه الأوامر ، لأنه لا يحفظ القرآن كل أحد ، فكان يوجد عند بعض الناس ما ليس عند بعض لو لم يكرر . وهذا المعنى في التكرير يروى عن جعفر الصادق ، ولهذا المعنى رفع التكرير في القصص . وقيل : لما كانت هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا ، كررت للتأكيد والقرير وإزالة الشبهة ، وقد ذكر العلماء في هذه الآيات مخصصات تخرجها بذلك عن التأكيد . فقيل : الأولى من قوله : { فَوَلّ وَجْهَكَ } ، نسخ للقبلة الأولى ، والثانية لاستواء الحكم في جميع الأمكنة ، والثالثة للدّوام في جميع الأزمان . وقيل : الأولى في المسجد الحرام ، والثانية خارج المسجد ، والثالثة خارج البلد . وقيل : الخروج الأول إلى مكان ترى فيه الكعبة ، والثاني إلى مكان لا ترى فيه ، فسوى بين الحالتين . وقيل : الخروج الأول متصل بذكر السبب ، وهو : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ } ، والثاني متصل بانتفاء الحجة ، وهو : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } . وقيل : الأول