@ 614 @ لجميع الأحوال ، والثاني لجميع الأمكنة ، والثالث لجميع الأزمنة . وقيل : الأول أن يكون الإنسان في المسجد الحرام ، والثاني : أن يكون خارجاً عنه وهو في البلد ، والثالث أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض ، فسوى بين هذه الأحوال ، لئلا يتوهم أن للأقرب حرمة لا تثبت للأبعد . وقيل : التخصيص حصل في كل واحد من الثلاثة بأمر ، فالأول بين فيه أن أهل الكتاب يعلمون أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ) وأمر هذه القبلة ، حتى أنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل ، والثاني فيه شهادة الله بأن ذلك حق ، والثالث بين فيه أنه فعل ذلك { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } ، فقطع بذلك قول المعاندين . وقيل : الأول مقرون بإكرامه تعالى إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها ، وهي قبلة إبراهيم ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، بقوله : { وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا } ، أي لكل صاحب دعوة قبلة يتوجه إليها ، فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله أنها الحق ، والثالث مقرون بقطع الله حجة من خاصمه من اليهود . وقيل : ربما خطر في بال جاهل أنه تعالى فعل ذلك لرضا نبيه لقوله : { فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } ، فأزال هذا الوهم بقوله : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ } ، أي ما حولناك لمجرد الرضا ، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق ، فليست كقبلة اليهود التي يتبعونها بمجرد الهوى ، ثم أعاد ثالثاً ، والمراد : دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة . وقيل : كرر { وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ } ، فحث بإحداهما على التوجه إلى القبلة بالقلب والبدن ، في أي مكان كان الإنسان ، نائياً كان عنها ، أو دانياً منها ، وذلك في حال التمكن والاختيار ، وحث بالأخرى على التوجه بالقلب نحوه عند اشتباه القبلة في حالة المسابقة ، وفي النافلة في حالة السفر ، وعلى الراحلة في السفر . .
{ لِئَلاَّ يَكُونَ } : هذه لام كي ، وأن بعدها لا النافية ، وقد حجز بها بين أن ومعمولها الذي هو يكون ، كما أنهم حجزوا بها بين الجازم والمجزوم في قولهم : أن لا تفعل أفعل . وكتبت في المصحف : لا ما بعدها ياء ، بعدها لام ألف ، فجعلوا صورة للهمزة الياء ، وذلك على حسب التخفيف الذي قرأ به نافع في القرآن من إبدال هذه الهمزة ياء . وقرأ الجمهور بالتحقيق : وهذه أن واجبة الإظهار هنا ، لكراهتهم اجتماع لام الجر مع لا النافية ، لأن في ذلك قلقاً في اللفظ ، وهي جائزة الإظهار في غير هذا الموضع ، فإذا أثبتوها ، فهو الأصل ، وهو الأقل في كلامهم ، وإذا حذفوها ، فلأن المعنى يقتضيها ضرورة أن اللام لا تكون الناصبة ، لأنها قد ثبت لها أن تعمل في الأسماء الجر ، وعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال . .
{ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } : أي احتجاج . والناس : قيل هو عموم في اليهود والعرب وغيرهم . وقيل : اليهود ، وحجتهم قولهم : يخالفنا محمد في قبلتنا ، وقد كان يتبعها ، أو لم ينصرف عن بيت المقدس ، مع علمه بأنه حق إلا برأيه ، ويزعم أنه أمر به ، أو ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم . وقيل : مشركو العرب ، وحجتهم قولهم : قد رجع محمد إلى قبلتنا ، وسيرجع إلى ديننا حين صار يستقبل القبلة . وقيل : الناس عام ، والمعنى : أن الله وعدهم بأنه لا يقوم لأحد عليهم حجة إلا حجة باطلة ، وهي قولهم : يوافق اليهود مع قوله : إني حنيف أتبع ملة إبراهيم ، أو لا يقين لكم ولا تثبتون على دين ، أو قالوا : ما لك تركت بيت المقدس ؟ إن كانت ضلالة فقد دنت بها ، وإن كانت هدى فقد نقلت عنه ، أو قولهم : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه ، أو قولهم في التوراة : إنه يتحول إلى قبلة أبيه إبراهيم ، فحوله الله ، لئلا يقولوا : نجده في التوراة يتحول فما تحول ، فيكون لهم ذلك حجة ، فأذهب الله حجتهم بذلك . واللام في لئلا لام الجر ، دخلت على إن وما بعدها فتتقدر بالمصدر ، أي لانتفاء الحجة عليكم . وتتعلق هذه اللام ، قيل : بمحذوف ، أي عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم ، والحجة في ذلك لئلا يكون . وقيل : تتعلق بولوا ، والقراءة بالياء ، لأن الحجة تأنيثها غير حقيقي ، وقد حسن ذلك الفصل بين الفعل ومرفوعه بمجرورين ، فسهل التذكير جداً ، وخبر كان قوله : للناس ، وعليكم : في موضع نصب على الحال ، وهو في الأصل صفة للحجة ، فلما تقدم عليها انتصب على الحال ، والعامل فيها محذوف ، ولا جائز أن يتعلق بحجة ، لأنه في معنى الاحتجاج ، ومعمول المصدر المنحل لحرف مصدري ، والفعل لا يتقدم على عامله . وأجاز بعضهم أن يتعلق عليكم بحجة ، هكذا نقلوا ، ويحتمل أن