@ 598 @ بالعلم الجزاء ، أي لنجازي الطائع والعاصي ، وكثيراً ما يقع التهديد في القرآن ، وفي كلام العرب ، بذكرالعلم ، كقولك : زيد عصاك ، والمعنى : أنا أجازيه على ذلك ، أو على أنه أريد بالمستقبل هنا الماضي ، التقدير : لما علمنا ، أو لعلمنا من يتبع الرسول ممن يخالف . فهذه كلها تأويلات في قوله : لنعلم ، فراراً من حدوث العلم وتجدّده ، إذ ذلك على الله مستحيل . وكل ما وقع في القرآن ، مما يدل على ذلك ، أوّل بما يناسبه من هذه التأويلات . ونعلم هنا متعدّ إلى واحد ، وهو الموصول ، فهو في موضع نصب ، والفعل بعده صلته . وقال بعض الناس : نعلم هنا متعلقة ، كما تقول : علمت أزيد في الدر أم عمرو ، حكاه الزمخشري . وعلى هذا القول تكون من استفهامية في موضع رفع على الابتداء ، ويتبع في موضع الجر ، والجملة في موضع المفعول ب نعلم . وقد ردّ هذا الوجه من الإعراب بأنه إذا علق نعلم ، لم يبق لقوله : { مِمَّن يَنقَلِبُ } ، ما يتعلق به ، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلق بما قبله ، ولا يصح تعلقها بقوله : { يَتَّبِعُ } ، الذي هو خبر عن من الاستفهامية ، لأن المعنى ليس على ذلك ، وإنما المعنى على أن يتعلق ب نعلم ، كقولك : علمت من أحسن إليك ممن أساء . وهذا يقوى أنه أريد بالعلم الفصل والتمييز ، إذ العلم لا يتعدى بمن إلا إذا أريد به التييز ، لأن التمييز هو الذي يتعدى بمن . وقرأ الزهري : ليعلم ، على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهذا لا يحتاج إلى تأويل ، إذ الفاعل قد يكون غير الله تعالى ، فحذف وبنى الفعل للمفعول ، وعلم غير الله تعالى حادث ، فيصح تعليل الجعل بالعلم الحادث ، وكان التقدير : ليعلم الرسول والمؤمنون . وأتى بلفظ الرسول ، ولم يجر على ذلك الخطاب في قوله : { كُنتَ عَلَيْهَا } ، فكان يكون الكلام من يتبعك ، لما في لفظه من الدلالة على الرسالة . وجاء الخطاب مكتنفاً ذكر الرسول مرّتين ، لما في ذلك من الفصاحة والتفنن في البلاغة ، وليعلم أن المخاطب هو الموصوف بالرسالة . ولما كانت الشهادة والمتبوعية من الأمور الإلهية خاصة ، أتى بلفظ الرسول ، ليدل على أن ذلك هو مختص بالتبليغ المحض . ولما كان التوجه إلى الكعبة توجهاً إلى المكان الذي ألفه الإنسان ، وله إلى ذلك نزوع ، أتى بالخطاب دون لفظ الرسالة ، فقيل : { الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا } ، فهذه ، والله أعلم ، حكمة الالتفات هنا . وقوله : { يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ } كناية عن الرجوع عما كان فيه من إيمان أو شغل . والرجوع على العقب أسوأ أحوال الراجع في مشيه على وجهه ، فلذلك شبه المرتدّ في الدين به . والمعنى : أنه كان متلبساً بالإيمان ، فلما حوّلت القبلة ، ارتاب فعاد إلى الكفر ، فهذا انقلاب معنوي ، والانقلاب الحقيقي هو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه . وقوله : { عَلَى عَقِبَيْهِ } في موضع الحال ، أي ناكصاً على عقبيه ، ومعناه أنه رجع إلى ما كان عليه ، لم يخلّ في رجوعه بأنه عاد من حيث جاء إلى الجالة الأولى التي كان عليها ، فهو قد ولي عما كان أقبل عليه ، ومشى أدراجه التي تقدّمت له ، وذلك مبالغة في التباسه بالشيء الذي يوصله إلى الأمر الذي كان فيه أوّلاً . قالوا : وقد اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة ، أو بسبب تحويلها . فقيل : بالأول ، لأنه كان يصلي إلى الكعبة ، ثم صلى إلى بيت المقدس ، فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم ثم صلى إلى الكعبة ، فشق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم . وقال الأكثرون بالقول الثاني ، قالوا : لو كان محمد على يقين من أمره ، لما تغير رأيه . وروي أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا : مرة هنا ومرة هنا ، وهذا أشبه ، لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بتعيين القبلة ، وقد وصفها الله بالكبر في قوله : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } . وقرأ ابن أبي إسحاق : على عقبيه ، بسكون القاف وتسكين عين فعل ، اسماً كان أو فعلاً ، لغة تميمية ، وقد تقدّم ذكر ذلك . .
{ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } : اسم كانت مضمر يعود على التولية عن البيت المقدس إلى الكعبة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وتحريره من جهة علم العربية أنه عائد على المصدر المفهوم من قوله : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ } ، أي وإن كانت الجعلة لكبيرة ، أو يعود على القبلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ) يتوجه إليها ، وهي بيت المقدس ، قبل التحويل ، قاله أبو العالية والأخفش . وقيل : يعود على الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس . ومعنى كبيرة : أي شاقة صعبة ، ووجه صعوبتها أن ذلك مخالف