@ 583 @ إليك بشيء منها ، لأنه تعالى قد كفاه شرهم . وهذا الإخبار ضمان من الله لرسوله ، كفايته ومنعه منهم ، ويضمن ذلك إظهاره على أعدائه ، وغلبته إياهم ، لأن من كان مشاقاً لك غاية الشقاق هو مجتهد في أذاك ، إذا لم يتوصل إلى ذلك ، فإنما ذلك لظهورك عليه وقوّة منعتك منه ، وهذا نظير قوله تعالى : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } . وكفاه الله أمرهم بالسبي والقتل في قريظة وبني قينقاع ، والنفي في بني النضير ، والجزية في نصارى نجران . وعطف الجملة بالفاء مشعر بتعقب الكفاية عقيب شقاقهم ، والمجيء بالسين يدل على قرب الاستقبال ، إذ السين في وضعها أقرب في التنفيس من سوف ، والذوات ليست المكفية ، فهو على حذف مضاف ، أي فسيكفيك شقاقهم ، والمكفى به محذوف ، أي بمن يهديه الله من المؤمنين ، أو بتفريق كلمة المشاقين ، أو بإهلاك أعيانهم وإذلال باقيهم بالسبي والنفي والجزية ، كما بيناه . .
{ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ، مناسبة هاتين الصفتين : أن كلاً من الإيمان وضدّه مشتمل على أقوال وأفعال ، وعلى عقائد ينشأ عنها تلك الأقوال والأفعال ، فناسب أن يختتم ذلك بهما ، أي وهو السميع لأقوالكم ، العليم بنياتكم واعتقادكم . ولما كانت الأقوال هي الظاهرة لنا الدالة على ما في الباطن ، قدّمت صفة السميع على العليم ، ولأن العليم فاصلة أيضاً . وتضمنت هاتان الصفتان الوعيد ، لأن المعنى ، وهو السميع العليم ، فيجازيكم بما يصدر منكم . .
{ صِبْغَةَ اللَّهِ } : أي دين الله ، قاله ابن عباس وسمي صبغة لظهور أثر الدين على صاحبه ، كظهور أثر الصبغ على الثوب ، ولأنه يلزمه ولا يفارقه ، كالصبغ في الثوب ، أو فطرة الله ، قاله مجاهد ومقاتل ؛ أو خلقة الله ، قاله الزجاج وأبو عبيد ؛ أو سنة الله ، قاله أبو عبيدة ؛ أو الإسلام ، قاله مجاهد أيضاً ؛ أو جهة الله يعني القبلة ، قاله ابن كيسان ؛ أو حجة الله على عباده ، قاله الأصم : أو الختان ، لأنه يصبغ صاحبه بالدم . والنصارى إذا ولد لهم مولود غمسوه في السابع في ماء يقال له المعمودية ، فيتطهر عندهم ويصير نصرانياً . استغنوا به عن الختان ، فردّ الله عليهم بقوله : { صِبْغَةَ اللَّهِ } ، أو الاغتسال للدّخول في الإسلام عوضاً عن ماء المعمودية ، حكاه الماوردي ؛ أو القربة إلى الله ، حكاه ابن فارس في المجمل ؛ أو التلقين ، يقال : فلان يصبغ فلاناً في الشيء ، أي يدخله فيه ويلزمه إياه ، كما يجعل الصبغ لازماً للثوب . وهذه أقوال متقاربة ، والأقرب منها هو الدين والملة ، لأن قبله : { قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } الآية . وقد تضمنت هذه الآية أصل الدين الحنيفي ، فكنى بالصبغة عنه ، ومجازه ظهور الأثر ، أو ملازمته لمن ينتحله . فهو كالصبغ في هذين الوصفين ، كما قال . وكذلك الإيمان ، حين تخالط بشاشة القلوب . والعرب تسمي ديانة الشخص لشيء ، واتصافه به صبغة . قال بعض شعراء ملوكهم : % ( وكل أناس لهم صبغة % .
وصبغة همدان خير الصبغ .
) % % ( صبغنا على ذاك أبناءنا % .
فأكرم بصبغتنا في الصبغ .
) % .
وقد روي عن ابن عباس أن الأصل في تسمية الدين صبغة : أن عيسى حين قصد يحيى بن زكريا فقال : جئت لأصبغ منك ، وأغتسل في نهر الأردن . فلما خرج ، نزل عليه روح القدس ، فصارت النصارى يفعلون ذلك بأولادهم في كنائسهم ، تشبيهاً بعيسى ، ويقولون : الآن صار نصرانياً حقاً . وزعموا أن في الإنجيل ذكر عيسى بأنه الصابغ . ويسمون الماء الذي يغمسون فيه أولادهم : المعمودية ، بالدال ، ويقال : المعمورية بالراء . قال : ويسمون ذلك الفعل التغميس ، ومنهم من يسميه الصبغ ، فردّ الله ذلك بقوله : { صِبْغَةَ اللَّهِ } . وقال الراغب : الصبغة إشارة إلى ما أوجده في الناس من بدائه العقول التي ميزنا بها عن البهائم ، ورشحنا بها لمعرفته ومعرفة طلب الحق ، وهو المشار إليه بالفطرة .