@ 554 @ يراد بالعاكفين : الواقفين ، يعني القائمين ، كما قال للطائفين والقائمين والركع السجود . والمعنى للطائفين والمصلين ، لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي . انتهى . ولو قال : القائم هنا معناه : العاكف ، من قوله : ما دمت عليه قائماً ، لكان حسناً ، ويكون في ذلك جمع بين أحوال من دخل البيت للتعبد ، لأنه لا يخلو إذ ذاك من طواف أو اعتكاف أو صلاة ، فيكون حمله على ذلك أجمع لما هيىء البيت له . .
{ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } : هو المصلون عند الكعبة ، قاله عطاء وغيره . وقال الحسن : هم جميع المؤمنين ، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي ، لأنهما أقرب أحواله إلى الله ، وقدّم الركوع على السجود لتقدمه عليه في الزمان ، وجمعا جمع تكسير لمقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة ، فكان ذلك تنويعاً في الفصاحة ، وخالف بين وزني تكسيرهما تنويعاً في الفصاحة أيضاً ، وكان آخرهما على فعول ، لا على فعل ، لأجل كونها فاصلة ، والفواصل قبلها وبعدها آخر ما قبله حرف مدّ ولين ، وعطفت تينك الصفتان لفرط التباين بينهما بأي تفسير فسرتهما مما سبق . ولم يعطف السجود على الركع ، لأن المقصود بهما المصلون . والركع والسجود ، وإن اختلفت هيئاتهما فيشملهما فعل واحد وهو الصلاة . فالمراد بالركع السجود : المصلون ، فناسب أن لا يعطف ، لئلا يتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حيالها ، وليستا مجتمعتين في عبادة واحدة ، وليس كذلك . وفي قوله : { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } دلالة على جواز الصلاة في البيت فرضاً ونفلاً ، إذ لم يخصص . .
{ وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا } : ذكروا أن العامل في إذا ذكر محذوفة ، ورب : منادى مضاف إلى الياء ، وحذف منه حرف النداء ، والمضاف إلى الياء فيه لغات ، أحسنها : أن تحذف منه ياء الإضافة ، ويدل عليها بالكسرة ، فيجتزأ بها لأن النداء موضع تخفيف . ألا ترى إلى جواز الترخيم فيه ؟ وتلك اللغات مذكورة في النحو ، وسيأتي منها في القرآن شيء ، ونتكلم عليه في مكانه ، إن شاء الله تعالى . وناداه بلفظ الرب مضافاً إليه ، لما في ذلك من تلطف السؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل وإجابة ضراعته . واجعل هنا بمعنى : صير ، وصورته أمر ، وهو طلب ورغبة . وهذا إشارة إلى الوادي الذي دعا لأهله حين أسكنهم فيه ، وهو قوله : { بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } ، أو إلى المكان الذي صار بلداً ، ولذلك نكره فقال : { بَلَدًا آمِنًا } . وحين صار بلداً قال : { رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا وَاجْنُبْنِى } ، { وَقَالَ لاَ * أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ } ، هذا إن كان الدعاء مرتين في وقتين . وقيل : الآيتان سواء ، فتحتمل آية التنكير أن يكون قبلها معرفة محذوفة ، أي اجعل هذا البلد بلداً آمناً ، ويكون بلداً النكرة ، توطئة لما يجيء بعده ، كما تقول : كان هذا اليوم يوماً حاراً ، فتكون الإشارة إليه في الآيتين بعد كونه بلداً . ويحتمل وجهاً آخر وهو : أنه لا يكون محذوف ولا يكون إذ ذاك بلداً ، بل ادعى له بذلك ، وتكون المعرفة الذي جاء في قوله : { هَاذَا الْبَلَدَ } ، باعتبار ما يؤول إليه سماه بلداً . ووصف بلد بآمن ، إما على معنى النسب ، أي ذا أمن ، كقولهم : { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } ، أي ذات رضا ، أو على الاتساع لما كان يقع فيه الأمن جعله آمناً كقولهم : نهارك صائم وليلك قائم . وهل الدعاء بأن يجعله آمناً من الجبابرة والمسلطين ، أو من أن يعود حرمه حلالاً ، أو من أن يخلو من أهله ، أو آمناً من القتل ، أو من الخسف والقذف ، أو من القحط والجدب ، أو من دخول الدجال ، أو من أصحاب الفيل ؟ أقوال . ومن فسر آمنا بكونه آمنا من الجبابرة ، فالواقع يرده ، إذ قد دخل فيه الجبابرة وقتلوا ، كعمرو بن لحي الجرهمي ، والحجاج بن يوسف ، والقرامطة ، وغيرهم . وكذلك من قال آمنا من القحط والجدب ، فهي أكثر بلاد الله قحطاً وجدباً . وقال القفال : معناه مأموناً فيه ، وكانوا قبل أن تغزوهم العرب في غاية الأمن ، حتى أن أحدهم إذا وجد بمفازة أو برّية ، لا يتعرض إليه عندما يعلم أنه من سكان الحرم . .
{ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ } : لما بنى إبراهيم البيت في أرض مقفرة ، وكان حال من يتمدّن من الأماكن يحتاج فيه إلى ماء يجري ومزرعة يمكن بهما القطان بالمدينة ، دعا الله للبلد بالأمن ، وبأن يجبى له الأرزاق . فإنه إذا كان البلد ذا أمن ، أمكن وفود التجار إليه لطلب الربح . ولما سمع في الإمامة قوله تعالى : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } . قيد هنا من سأل له الرزق فقال : { مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ } ، والضمير في منهم عائد على أهله . دعا لمؤمنهم بالأمن والخصب ، لأن