@ 515 @ قول جماعة : أم تريدون . وقال قوم : أم هنا منقطعة ، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره : أم علمتم ، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ) مخاطبة أمته ، وأما إن كان هو المخاطب وحده ، فالمعادل محذوف لا غير ، وكلا القولين مروي . انتهى كلامه ونقله . وما قالوه ليس بجيد ، بل هذا استفهام معناه التقرير ، فلا يحتاج إلى معادل ألبتة ، والأولى أن يكون المخاطب السامع ، والاستفهام بمعنى التقرير كثير في كلامهم جداً ، خصوصاً إذا دخل على النفي : { أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَالَمِينَ } ؟ { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } ؟ { أَلَمْ نُرَبّكَ * بِكَ * فِينَا وَلِيداً } ؟ { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَى } ؟ { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } ؟ فهذا كله استفهام لا يحتاج فيه إلى معادل ، لأنه إنما يراد به التقرير . والمعنى : قد علمت أيها المخاطب أن الله قادر على كل شيء ، فله التصرف في تكاليف عباده ، بمحو وإثبات وإبدال حكم بحكم ، وبأن يأتي بالأخير لكم وبالمماثل . وحكمة إفراد المخاطب : أنه ما من شخص إلا يتوهم أنه المخاطب بذلك ، والمنبه به ، والمقرر على شيء ثابت عنده ، وهو أن قدرة الله تعالى متعلقة بالأشياء ، فلن يعجزه شيء ، فإذا كان كذلك لم ينكر النسخ ، لأن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه . وفي قوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ } ، فيه خروج من ضمير جمع مخاطب وهو : { مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ } ، إلى ضمير مخاطب مفرد للحكمة التي بيناها ، وخروج من ضمير متكلم معظم نفسه ، إلى اسم ظاهر غائب وهو الله ، إذ هو الإسم العلم الجامع لسائر الصفات ، ففي ضمنه صفة القدرة ، فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم ، فلذلك عدل عن قوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ * إِنَّنَا } إلى قوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ } ، وقد تقدم تفسيره قوله : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } في أوائل هذه السورة ، فأغنى ذلك عن إعادته . .
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ * السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } ؟ هذا أيضاً استفهام دخل على النفي فهو تقرير ، فليس له معادل ، لأن التقرير معناه : الإيجاب ، أي قد علمت أيها المخاطب أن الله له سلطان السموات والأرض والاستيلاء عليهما ، فهو يملك أموركم ويدبرها ، ويجريها على ما يختاره لكم من نسخ وغيره ، وخص السموات والأرض بالملك ، لأنهما من أعظم المخلوقات ، ولأنهما قد اشتملا على جميع المخلوقات . وإذا كان استيلاؤه على الطرفين ، كان مستولياً على ما اشتملا عليه ، أو لأنه يعبر عن مخلوقاته العلوية بالسموات ، والسفلية بالأرض . .
وتضمنت هاتان الجملتان التقرير على الوصفين اللذين بهما كمال التصرف ، وهما : القدرة والاستيلاء ، لأن الشخص قد يكون قادراً ، بمعنى أن له استطاعة على فعل شيء ، لكنه ليس له استيلاء على ذلك الشيء ، فينفذ فيه ما يستطيع أن يفعل . فإذا اجتمعت الاستطاعة وعدم المانعية ، كمل بذلك التصرف مع الإرادة . وبدأ بالتقرير على وصف القدرة ، لأنه آكد من وصف الاستيلاء والسلطان . { وَمَا لَكُم مّن دُونِ اللَّهِ } : انتقل من ضمير الإفراد في الخطاب إلى ضمير الجماعة ، وناسب الجمع هنا ، لأن المنفي بدخول من عليه صار نصاً في العموم ، فناسب كون المنفي عنه يكون عاماً أيضاً ، كان المعنى : وما لكل فرد منكم فرد فرد . { مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } : وأتى بصيغة ولي ، وهو فعيل ، للمبالغة ، ولأنه أكثر في الاستعمال ، ولذلك لم يجيء في القرآن وال إلا في سورة الرعد ، لمواخاة الفواصل ، وأتى بنصير على وزن فعيل ، لمناسبة وليّ في كونهما على فعيل ، ولمناسبة أواخر الآي ، ولأنه أبلغ من فاعل . ومن زائدة في قوله : { مِن وَلِىّ } ، فلا تتعلق بشيء . ومن : في { مِن دُونِ اللَّهِ } متعلقة بما يتعلق به المجرور الذي هو لكم ، وهو يتعلق بمحذوف ، إذ هو في موضع الخبر ، ويجوز في ما هذه أن تكون تميمية ، ويجوز أن تكون حجازية على ذهب من يجيز تقدم خبرها ، إذا كان ظرفاً أو مجروراً . أما من منع ذلك فلا يجوز في ما أن تكون حجازية ، ومعنى من الأولى ابتداء الغاية . وتكرر اسم الله ظاهراً في هذه الجمل الثلاث ، ولم يضمر للدلالة على استقلال كل جملة منها ، وأنها لم تجعل مرتبطة بعضها ببعض ارتباط ما يحتاج فيه إلى إضمار . .
ولما كانت الجملتان الأوليان للتقرير ، وهو إيجاب من حيث المعنى ، ناسب أن تكون الجملة الثالثة نفياً للولي والناصر ، أي أن الأشياء التي هي تحت قدرة الله وسلطانه واستيلائه ، فالله تعالى لا يحجزه عما يريد بها شيء ، ولا مغالب له تعالى فيما يريد . .
{ أَمْ تُرِيدُون