@ 17 @ العصيان مناف وهو كلام صحيح . وقوله : فكان المأمور به غير مدلول عليه ولا منوي هذا لا يسلم بل هو مدلول عليه ومنوي لا دلالة الموافق بل دلالة المناقض كما بينا . وأما قوله : لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به هذا أيضاً لا يسلم . وقوله في جواب السؤال لأن قوله { فَفَسَقُواْ } يدافعه ، فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدّعي إضمار خلافه . قلنا : نعم يدعي إضمار خلافه ودل على ذلك نقيضه . وقوله : ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف . قلت : ليس نظيره لأن مفعول أمر لم يستفض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه ، بل لا يكاد يستعمل مثل شاء محذوفاً مفعوله لدلالة ما بعده عليه ، وأكثر استعماله مثبت المفعول لانتفاء الدلالة على حذفه . قال تعالى : { قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء } { أَمْرٍ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ * إِيَّاهُ } { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَاذَا } { قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ } { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } أي به ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة . وقال الشاعر : .
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به .
وقال أبو عبد الله الرازي : ولقائل أن يقول كما أن قوله أمرته فعصاني يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به ، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به ، أن كونه معصية ينافي كونها مأموهاً بها ، فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق . هذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصرّ صاحب الكشاف على قوله مع ظهور فساده فثبت أن الحق ما ذكروه ، وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك عناداً وأقدموا على الفسق انتهى . .
القول الثاني : أن معنى { أَمْرُنَا } كثرنا أي كثرنا { مُتْرَفِيهَا } يقال : أمر الله القوم أي كثرهم حكاه أبو حاتم عن أبي زيد . وقال الواحدي : العرب تقول : أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذا كثرهم انتهى . وقال أبو علي الفارسي : الجيد في أمرنا أن يكون بمعنى كثرنا ، واستدل أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بما جاء في الحديث : ( خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة ) أي كثيرة النسل ، يقال : أمر الله المهرة أي كثر ولدها ، ومن أنكر أمر الله القوم بمعنى كثرهم لم يلتفت إليه لثبوت ذلك لغة ويكون من باب ما لزم وعدّي بالحركة المختلفة ، إذ يقال : أمر القوم كثروا وأمرهم الله كثرهم ، وهو من باب المطاوعة أمرهم الله فأمروا كقولك شتر الله عينه فشترت ، وجدع أنفه وثلم سنه فثلمت . .
وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمة . { أَمْرُنَا } بكسر الميم ، وحكاها النحاس وصاحب اللوامح عن ابن عباس ، وردّ الفراء هذه القراءة لا يلتفت إليه إذ نقل أنها لغة كفتح الميم ومعناها كثرنا . حكى أبو حاتم عن أبي زيد يقال : أمر الله ماله وأمره أي كثره بكسر الميم وفتحها . وقرأ عليّ ابن أبي طالب ، وابن أبي إسحاق ، وأبو رجاء ، وعيسى بن عمر ، وسلام ، وعبد الله بن أبي يزيد ، والكلبي : آمرنا بالمد وجاء كذلك عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وأبي العالية ، وابن هرمر ، وعاصم ، وابن كثير ، وأبي عمرو ، ونافع ، وهو اختيار يعقوب ومعناه كثرنا . يقال أمر الله القوم وآمرهم فتعدى بالهمزة . وقرأ ابن عباس وأبو عثمان النهدي والسدّي وزيد بن عليّ وأبو العالية : { أَمْرُنَا } بتشديد الميم وروي ذلك عن عليّ والحسن والباقر وعاصم وأبي عمر وعدي أمر بالتضعيف ، والمعنى أيضاً كثرنا وقد يكون { أَمْرُنَا } بالتشديد بمعنى وليناهم وصيرناهم أمراء ، واللازم من ذلك أمر فلان إذا صار أميراً أي ولي الأمر . وقال أبو عليّ الفارسي : لا وجه لكون { أَمْرُنَا } من الإمارة لأن رياستهم لا تكون إلاّ لواحد بعد واحد والإهلاك إنما يكون في مدة واحد منهم ، وما قاله أبو عليّ لا يلزم لأنا لا نسلم أن الأمير هو الملك بل كونه ممن يأمر ويؤتمر به ، والعرب تسمي أميراً من يؤتمر به وإن لم يكن ملكاً . ولئن سلمنا أنه أريد به