@ 16 @ واتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه ، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر ، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية ، وآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول ، وهي كلمة العذاب فدمرهم . فإن قلت : هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا ؟ قلت : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نفيضه . وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه وهو كلام مستفيض . يقال : أمرته فقام وأمرته فقرأ ، لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة ، ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأن ذلك مناف للأمر مناقض له ، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به ، فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتى يجعل دالاً على المأمور به ، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي ، لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به وكأنه يقول : كان مني أمر فلم يكن منه طاعة كما أن من يقول : فلان يعطي ويمنع ويأمر وينهي غير قاصد إلى مفعول . فإن قلت : هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقسط والخير دليلاً على أن المراد أمرناهم بالخير { فَفَسَقُواْ } ؟ قلت : لا يصح ذلك لأن قوله { فَفَسَقُواْ } يدافعه فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدّعي إضمار خلافه ، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه . ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه تقول : لو شاء لأحسن إليك ، ولو شاء لأساء إليك ، تريد لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت وقلت : قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الإساءة فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة لم يكن على سداد انتهى . .
أما ما ارتكبه من المجاز وهو أن { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } صببنا عليهم النعمة صباً فيبعد جداً . وأما قوله وأقدرهم على الخير والشر إلى آخره فمذهب الاعتزال ، وقوله لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز تعليل لا يصح فيما نحن بسبيله ، بل ثم ما يدلر على حذفه . وقوله فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه إلى قوله علم الغيب ، فنقول : حذف الشيء تارة يكون لدلالة موافقه عليه ، ومنه ما مثل به في قوله أمرته فقام وأمرته فقرأ ، وتارة يكون لدلالة خلافه أو ضده أو نقيضه فمن ذلك قوله تعالى : { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } قالوا : تقديره ما سكن وما تحرك . وقوله تعالى { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } قالوا : الحر والبرد . وقول الشاعر : % ( وما أدري إذا يممت أرضا % .
أريد الخير أيهما يليني .
) % % ( أالخير الذي أنا أبتغيه % .
أم الشر الذي هو يبتغيني .
) % .
تقديره : أريد الخير وأجتنب الشر ، وتقول : أمرته فلم يحسن فليس المعنى أمرته بعدم الإحسان فلم يحسن ، بل المعنى أمرته بالإحسان فلم يحسن ، وهذه الآية من هذا القبيل يستدل على حذف النقيض بإثبات نقيضه ، ودلالة النقيض على النقيض كدلالة النظير على النظير ، وكذلك أمرته فأساء إليّ ليس المعنى أمرته بالإساءة فأساء إليّ ، إنما يفهم منه أمرته بالإحسان فأساء إليّ . وقوله ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني . نقول : بل يلزم ، وقوله لأن ذلك مناف أي لأن