@ 169 @ إليها وهو القرآن ، والمتصف بهذه الأوصاف الشريفة هو القرآن . قال الزمخشري : أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد ، هو شفاء أي : دواء لما في صدوركم من العقائد الفاسدة ، ودعاء إلى الحق ورحمة لمن آمن به منكم انتهى . ومن ربكم يحتمل أن يتعلق بجاءتكم ، فمن لابتداء الغاية . ويحتمل أن يكون في موضع الصفة أي : من مواعظ ربكم ، فتتعلق بمحذوف ، فمن للتبعيض . وفي قوله : من ربكم تنبيه على أنه من عند الله ليس من عند أحد . قال ابن عطية : وجعله موعظة بحسب الناس أجمع ، وجعله هدى ورحمة بحسب المؤمنين ، وهذا تقسيم صحيح المعنى إذا تؤوّل بأن وجهه انتهى . وذكر أبو عبد الله الرازي هنا كلاماً كثيراً ممزوجاً بما يسمونه حكمة ، نعلم قطعاً أنّ العرب لا تفهم ذلك الذي قرره من ألفاظ القرآن ، وطوّل في ذلك ، وضرب أمثلة حسية يوقف عليها من تفسيره ، ثم قال آخر كلامه : فالحاصل أنّ الموعظة إشارة إل تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة ، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الريقة ، والهدى إشارة إل ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة ، والرحمة إشارة إل كونها بالغة في الكمال ، والإشراق إل حيث تصير تكمل الناقصين وهي النبوّة . فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية ، لا يمكن تأخر ما تقدّم ذكره ، ولا تقدم ما تأخر ذكره . .
{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } : قال الزمخشري عن أبيّ بن كعب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قرأ : قل بفضل الله وبرحمته فقال : { بِكِتَابٍ * اللَّهِ } فضله الإسلام ، ورحمته ما وعد عليه انتهى . ولو صح هذا الحديث لم يمكن خلافه . قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وهلال بن يساف : فضل الله الإسلام ، ورحمته القرآن . وقال الضحاك وزيد بن أسلم عكس هذا ، وقال أبو سعيد الخدري : الفضل القرآن ، والرحمة أن جعلهم من أهله . وقال ابن عباس فيما روى الضحاك عنه : الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم ) . وقال ابن عمر : الفضل الإسلام ، والرحمة تزيينه في القلوب . وقال مجاهد : الفضل والرحمة القرآن ، واختاره الزجاج . وقال خالد بن معدان : الفضل القرآن ، والرحمة السنة . وعنه أيضاً أنّ الفضل الإسلام ، والرحمة الستر . وقال عمرو بن عثمان : فضل الله كشف الغطاء ، ورحمته الرؤية واللقاء . وقال الحسين بن فضل : الفضل الإيمان ، والرحمة الجنة . وقيل : الفضل التوفيق ، والرحمة العصمة . وقيل : الفضل نعمه الظاهرة ، والرحمة نعمه الباطنة . وقال الصادق : الفضل المغفرة ، والرحمة التوفيق . وقال ذون النون : الفضل الجنان ، ورحمته النجاة من النيران . وهذه تخصيصات تحتاج إلى دلائل ، وينبغي أن يعتقد أنها تمثيلات ، لأن الفضل والرحمة أريد بهما تعيين ما ذكر وحصرهما فيه . .
وقال ابن عطية : وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه أنّ الفضل هو هداية الله إلى دينه والتوفيق إلى اتباع الشرع ، والرحمة هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على اتباع الإسلام والإيمان . ومعنى الآية : قل يا محمد لجميع الناس بفضل الله وبرحمته فليقع الفرح منكم ، لا بأمور الدنيا وما يجمع من حطامها ، فالمؤمنون يقال لهم : فليفرحوا وهم ملتبسون بعلة الفرح وسببه ، ومخلصون لفضل الله منتظرون لرحمته ، والكافرون يقال لهم : بفضل الله ورحمته فليفرحوا على معنى أنْ لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك انتهى . والظاهر أن قوله : قل بفضل الله وبرحمته ، فبذلك فليفرحوا جملتان ، وحذف ما تتعلق به الباء والتقدير : قل بفضل الله وبرحمته ليفرحوا ، ثم عطفت الجملة الثانية على الأولى على سبيل التوكيد . قال الزمخشري : والتكرير للتقرير والتأكيد ، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا ، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه ، والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح ، فإنه لا مفروح به أحق منهما . ويجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فليعتنوا بذلك ، فليفرحوا . ويجوز أنْ يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك أي : فمجيئهما فليفرحوا انتهى . أما إضمار