@ 160 @ .
{ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } : قال الزمخشري : بل كذبوا ، بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن ، وفاجأوه في بديهة السماع قبل أن يفهموه ويعلموا كنه أمره ، وقبل أن يتدبروه ويفقهوا تأويله ومعانيه ، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم ، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم . وقال ابن عطية : هذا اللفظ يحتمل معنيين : أحدهما : أن يريد بما الوعيد الذي توعدهم الله على الكفر ، وتأويله على هذا يريد به ما يؤول إليه أمره كما هو في قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } والآية محملها على هذا التأويل يتضمن وعيداً ، والمعنى الثاني : أنه أراد بل كذبوا بهذا القرآن العظيم المنبىء بالغيوب الذي لم يتقدّم لهم به معرفة ، ولا أحاطوا بمعرفة غيوبه وحسن نظمه ، ولا جاءهم تفسير ذلك وبيانه . وقال أبو عبد الله الرازي : يحتمل وجوهاً ، الأول : كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا { أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ } ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس نفس الحكاية ، بل قدرته تعالى على التصرف في هذا العالم ، ونقله أهله من عز إلى ذل ، ومن ذل إلى عز ، وبفناء الدنيا ، فيعتبر بذلك . وأن ذلك القصص بوحي من الله ، إذ أعلم بذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ) من غير تحريف مع كونه لم يتعلم ولم يتتلمذ . الثاني : كلما سمعوا خروف التهجّي ولم يفهموا منها شيئاً ساء ظنهم ، وقد أجاب الله بقوله : { مِنْهُ آيَاتٌ * بَيّنَاتٍ } الآية . الثالث : ظهور القرآن شيئاً فشيئاً ، فساء ظنهم وقالوا : { لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءانُ جُمْلَةً واحِدَةً } وقد أجاب تعالى وشرح في مكانه . الرابع : القرآن مملوء من الحشر ، وكانوا ألفوا المحسوسات ، فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت ، فبين الله صحة المعاد بالدلائل الكثيرة . الخامس : أنه مملوء من الأمر بالعبادات ، وكانوا يقولون : إله العالم غني عن طاعتنا ، وهو أجل أن يأمرنا بما لا فائدة له فيه . وأجاب تعالى بقوله : { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ } الآية وبالجملة فشبه الكفار كثيرة ، فلما رأوا القرآن مشتملاً على أمور ما عرفوا حقيقتها ولا اطلعوا على وجه الحكمة فيها كذبوا بالقرآن فقوله : بما لم يحيطوا بعلمه ، إشارة إلى عدم علمهم هذه الأشياء وقوله : ولما يأتهم تأويله ، إشارة إلى عدم جهدهم واجتهادهم في طلب أسرار ما تضمنه القرآن انتهى ملخصاً . .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى التوقع في قوله تعالى : ولم ايأتهم تأويله ؟ ( قلت ) : معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ، ومعرفة التأويل تقليداً للآباء ، وكذبوه بعد التدبر تمرداً وعناداً فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به ، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علوّ شأنه وإعجازه لما كرر عليهم التحدي ورازوا قواهم في المعارضة ، واستيقنوا عجزهم عن مثله ، فكذبوا به بغياً وحسداً انتهى . ويحتاج كلامه هذا إلى نظر . وقال أيضاً : ويجوز أن يكون المعنى : ولما يأتهم تأويله ، ولما يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أي عاقبته ، حتى يتبين لهم أكذب هو أم صدق ؟ يعني : أنه كتاب معجز من جهتين : من جهة إعجاز نظمه ، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب . فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز ، وقبل أن يخبروا إخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه انتهى . وبقيت جملة الإحاطة بلم ، وجملة إتيان التأويل بلما ، ويحتاج في ذلك إلى فرق دقيق . والكاف في موضع نصب أي : مثل ذلك التكذيب كذب الذين من قبلهم ، يعني : قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم ، ولكن قلدوا الآباء عاندوا . قال ابن عطية : قال الزجاج : كيف ، في موضع نصب على خبر كان ، لا يجوز أن يعمل فيه انظر ، لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه ، هذا قانون النحويين لأنهم عاملوا كيف في كل مكان معاملة الاستفهام المحض . في قولك : كيف زيد ؟ ولكيف تصرفات غير هذا تحل محل المصدر الذي هو كيفية ، وينخلع معنى الاستفهام ، ويحتمل هذا الموضع أنْ يكون منها ومن تصرفاتها قولهم : كن كيف شئت ، وانظر قول البخاري : كيف كان بدء الوحي ، فإنه لم يستقيم انتهى . وقول الزجاج : لا يجوز أن يعمل فيه انظر ، وتعليله : يريد لا يجوز أن تعمل فيه انظر لفظاً ، لكنّ الجملة في موضع نصب لا نظر معلقة ، وهي من نظر القلب . وقولابن عطية : هذا قانون النحويين إلى آخر تعليله ، ليس كما