@ 510 @ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ } مناسبة هذه الآية قبلها أنه لما ذكر تعالى أنّ التوراة يحكم بها النبيون ، ذكر أنه قفاهم بعيسى تنبيهاً على أنه من جملة الأنبياء ، وتنويهاً باسمه ، وتنزيهاً له عما يدعيه اليهود فيه ، وأنه من جملة مصدقي التوراة . .
ومعنى : قفينا ، أتينا به ، يقفو آثارهم أي يتبعها . والضمير في آثارهم يعود على التبيين من قوله : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ } وقيل : على الذين كتبت عليهم هذه الأحكام . وعلى آثارهم ، متعلق بقفينا ، وبعيسى متعلق به أيضاً . وهذا على سبيل التضمين أي : ثم جئنا على آثارهم بعيسى ابن مريم قافياً لهم ، وليس التضعيف في قفينا للتعدية ، إذ لو كان للتعدية ما جاء مع الباء المعدية ، ولا تعدى بعلى . وذلك أن قفا يتعدى لواحد قال تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وتقول : قفا فلان الأثر إذا اتبعه ، فلو كان التضعيف للتعدي لتعدى إلى اثنين منصوبين ، وكان يكون التركيب : ثم قفينا على آثارهم عيسى ابن مريم ، وكان يكون عيسى هو المفعول الأول ، وآثارهم المفعول الثاني ، لكنه ضمن معنى جاء وعدى بالياء ، وتعدى إلى آثارهم بعلى . وقال الزمخشري : قفيته مثل عقبته إذا اتبعته ، ثم يقال : قفيته بفلان وعقبته به ، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء . .
( فإن قلت ) : فأين المفعول الأول في الآية ؟ ( قلت ) : هو محذوف ، والظرف الذي هو على آثارهم كالسادّ مسده ، لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه انتهى . وكلامه يحتاج إلى تأويل ، وذلك أنه جعل قفيته المضعف بمعنى قفوته ، فيكون فعل بمعنى فعل نحو : قدرالله ، وقدر الله ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها فعل ، ثم عداه بالباء ، وتعدية المتعدي لمفعول بالباء لثان قلّ أن يوجد ، حتى زعم بعضهم أنه لا يوجد . ولا يجوز فلا يقال : في طعم زيد اللحم ، أطعمت زيداً باللحم ، والصحيح أنه جاء على قلة تقول : دفع زيد عمراً ، ثم تعديه بالباء فتقول : دفعت زيداً بعمر . وأي : جعلت زيداً يدفع عمراً ، وكذلك صك الحجر الحجر . ثم تقول : صككت الحجر بالحجر أي جعلته يصكه . وأما قوله : المفعول الأول محذوف الظرف كالساد مسده فلا يتجه ، لأنّ المفعول هو مفعول به صريح ، ولا يسد الظرف مسده ، وكلامه مفهم التضمين وإن لم يصرح به . ألا ترى إلى قوله : لأنه إذا قفى به أثره فقد قفى به إياه ؟ وقول الزمخشري : فقد قفى به إياه فصل الضمير ، وحقه أن يكون متصلاً ، وليس من مواضع فصل لو قلت : زيد ضربت بسوط إيتاه لم يجز إلا في ضرورة شعر ، فإصلاحه زيد ضربته بسوط ، وانتصب مصدقاً على الحال من عيسى . ومعنى : لما بين يديه ، لما تقدمه من التوراة لأنها جاءت قبله ، كما أن الرسول بين يدي الساعة . وتقدم الكلام في هذا . وتصديقه إياها هو بكونه مقراً أنها كتاب منزل من الله حقاً واجب العمل به قبل ورود النسخ ، إذ شريعته مغايرة لبعض ما فيها . .
{ وَقَفَّيْنَا عَلَىءاثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ } هذه الجملة معطوفة على قوله : وقفينا . وفيه تعظيم عيسى عليه السلام بأن الله آتاه كتاباً إلهيّاً . وتقدمت قراءة الحسن الإنجيل بفتح الهمزة ، وما ذكروه في اشتقاقه إن كان عربياً . .
وقوله : فيه هدى ونور ، في موضع الحال ، وارتفاع هدى على الفاعلية بالجار والمجرور ، إذ قد اعتمد بأن . وقع حالاً لذي حال أي : كائناً فيه هدى . ولذلك عطف عليه { وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } والضمير في يديه عائد على الإنجيل ، والمعنى : أن عيسى وكتابه الذي أنزل عليه هما مصدقان لما تقدمهما من التوراة ، فتظافر على تصديقه الكتاب الإلهي المنزل ، والنبي المرسل المنزل عليه ذلك الكتاب . ومعنى كونه فيه هدى أنه يشتمل على دلائل التوحيد ، وتنزيه الله عن الولد والصاحبة والمثل والضد ، وعلى الإرشاد والدعاء إلى الله تعالى ، وإلى إحياء أحكام التوراة ، والنور هو ما فيه مما يستضاء به إذ فيه بيان أحكام الشريعة وتفاصيلها . قال ابن عطية : ومصدقاً حال مؤكدة معطوفة على موضع الجملة التي هي فيه هدى ، فإنها جملة في موضع الحال انتهى . وإنما قال : إن مصدقاً ، حال مؤكدة من حيث المعنى ، لأنه يلزم من كون الإنجيل كتاباً إلا هيا أن