@ 511 @ يكون مصدقاً للكتب الإلهية ، لكن قوله : معطوفة على الجملة التي هي فيه هدى ، فإنها جملة في موضع الحال قول مرجوح ، لأنّا قد بينا أنّ قوله : فيه هدى ونور من قبيل المفرد لا من قبيل الجملة ، إذ قدرناه كائناً فيه هدى ونور ، ومتى دار الأمر بين أن يكون الحال مفرداً أو جملة ، كان تقدير المفرد أجود على تقدير أنه جملة يكون ذلك من القليل ، لأنها جملة اسمية ، ولم تأت بالواو ، وإن كان يغني عن الرابط الذي هو الضمير ، لكن الأسْن والأكثر أن يأتي بالواو ، حتى أنّ الفراء زعم أن عدم الواو شاذ ، وإن كان ثم ضمير ، وتبعه على ذلك الزمخشر . قال علي بن أبي طالب : ومصدقاً معطوف على مصدقاً الأول انتهى . ويكون إذ ذاك حالاً من عيسى ، كرره على سبيل التوكيد ، وهذا فيه بعد من جهة التركيب واتساق المعانى ، وتكلفه أن يكون وآتيناه الإنجيل جملة حالية معطوفة على مصدّقاً . .
{ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ } قرأ الضحاك : وهدى وموعظة بالرفع ، وهو هدى وموعظة . وقرأ الجمهور : بالنصب حالاً معطوفة على قوله : ومصدقاً ، جعله أولاً فيه هدى ونور ، وجعله ثانياً هدى وموعظة . فهو في نفسه هدى ، وهو مشتمل على الهدى ، وجعله هدى مبالغة فيه إذ كان كتاب الإنجيل مبشراً برسول الله صلى الله عليه وسلم ) والدلالة منه على نبوته ظاهرة . ولما كانت أشد وجوه المنازعة بين المسلمين واليهود والنصارى ذلك ، أعاد الله ذكر الهدى تقريراً وبياناً لنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ) ، ووصفه بالموعظة لاشتماله على نصائح وزواجر بليغة ، وخصصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها ، كما قال تعالى : { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } فهم المقصودون في علم الله تعالى ، وإن كان الجميع يدعي ويوعظ ، ولكنه على غير المتقين عمى وحسرة ، وأجاز الزمخشري أن ينتصب هدى وموعظة على أنهما مفعول لهما لقوله : وليحكم . قال : كأنه قيل : وللهدي والموعظة آتيناه الإنجيل ، وللحكم بما أنزل الله فيه من الأحكام . وينبغي أن يكون الهدي والموعظة مسندين في المعنى إلى الله ، لا إلى الإنجيل ، ليتحد المفعول من أجله مع العامل في الفاعل ، ولذلك جاء منصوباً . ولما كان : وليحكم ، فاعله غير الله ، أتى معدي إليه بلام العلة . ولاختلاف الزمان أيضاً ، لأن الإيتاء قارن الهداية والموعظة في الزمان ، والحكم خالف فيه لاستقباله ومضيه في الإيتاء ، فعدى أيضاً لذلك باللام ، وهذا الذي أجازه الزمخشري خلاف الظاهر . قال الزمخشري : فإن نظمت هدى وموعظة في سلك مصدّقاً فما تصنع بقوله : وليحكم ؟ ( قلت ) : أصنع به كما صنعت بهدى وموعظة ، حين جعلتهما مفعولاً لهما ، فأقدر : ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه انتهى . وهو جواب واضح . .
{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ } أمر تعالى أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام ويكون هذا الأمر على سبيل الحكاية ، وقلنا لهم : احكموا ، أي حين إيتائه عيسى أمرناهم بالحكم بما فيه إذ لا يمكن ذلك أن يكون بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ) ، إذ شريعته ناسخة لجميع الشرائع ، أو بما أنزل الله فيه مخصوصاً بالدلائل الدالة على نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وهو قول الأصم ، أو بخصوص الزمان إلى بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، أو عبر بالحكم بما أنزل الله فيه عن عدم تحريفه وتغييره . فالمعنى : وليقرأه أهل الإنجيل على الوجه الذي أنزل لا يغيرونه ولا يبدلونه ، وهذا بعيد . وظاهر الأمر يرد قول من قال : إن عيسى كان متعبداً بأحكام التوراة . وقال تعالى : { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } ولهذا القائل أن يقول : بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة . والذي يظهر أن الأحكام في الإنجيل قليلة ، وهنما أكثره زواجر . وتلك الأحكام المخالفة لأحكام التوراة أمروا بالعمل بها ، ولهذا جاء : { وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ } . .
وقرأ الجمهور : وليحكم بلام الأمر ساكنة ، وبعض القراء يكسرها . وقرأ أبيّ : وأن ليحكم بزيادة أن قبل لام كي ، وتقدّم كلام الزمخشري فيما يتعلق به . وقال ابن عطية