@ 209 @ لهم على عمل السوء هو الجهالة ، إذ لو كانوا عالمين بما يترتب على المعصية متذكرين له حالة إتيان المعصية ما عملوها كقوله ( لا يزني الزاني حتى يزني وهو مؤمن ) لأن العقل حينئذ يكون مغلوباً أو مسلوباً . ومن في قوله : من قريب ، تتعلق بيتوبون ، وفيها وجهان : أحدهما : أنها للتبعيض ، أي بعض زمان قريب ، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فهو تائب من قريب . والثاني : أن تكون لابتداء الغاية ، أي يبتدىء التوبة من زمان قريب من المعصية لئلا يقع في الإصرار . ومفهوم ابتداء الغاية : أنه لو تاب من زمان بعيد فإنه يخرج عن من خصّ بكرامة ختم قبول التوبة على الله المذكورة في الآية بعلى ، في قوله : على الله . وقوله : يتوب الله عليهم ، ويكون من جملة الموعودين بكلمة عسى في قوله : فأولئك { عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } . .
ودخول من الابتدائية على الزمان لا يجيزه البصريون ، وحذف الموصوف هنا وهو زمان ، وقامت الصفة التي هي قريب مقامه ، ليس مقيساً . لأن هذه الصفة وهي القريب ليست من الصفات التي يجوز حذفها بقياس ، لأنها ليست مما استعملت استعمال الأسماء ، فلم يلفظ بموصوفها كالأبطح ، والأبرق ، ولا مختصة بجنس الموصوف نحو : مررت بمهندس ، ولا تقدم ذكر موصوفها نحو : اسقني ماء ولو بارداً ، وما لم يكن كذلك مما كان الوصف فيه اسماً وحذف فيه الموصوف وأقيمت صفته مقامه فليس بقياس . .
فأولئك يتوب الله عليهم ، لما ذكر تعالى أنَّ قبول التوبة على الله لمن ذكر أنه تعالى هو يتعطف عليهم ويرحمهم ، ولذلك اختلف متعلقاً التوبة باختلاف المجرور . لأن الأول على الله ، والثاني عليهم ، ففسر كل بما يناسبه . ولما ضمَّن يتوب معنى ما يعدى بعلى عداه بعلى ، كأنه قال : يعطف عليهم . وفي على الأولى روعي فيها المضاف المحذوف وهو قبول . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما فائدة قوله فأولئك يتوب الله عليهم بعد قوله : إنما التوبة على الله لهم ؟ ( قلت ) : قوله : إنما التوبة على الله إعلام بوجوبها عليه ، كما يجب على العبد بعض الطاعات . وقوله : فأولئك يتوب الله عليهم ، عدة بأنه يفي بما وجب عليه ، وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة ، كما بعد العبد الوفاء بالواجب . انتهى كلامه . وهو مشير إلى طريق الاعتزال في قولهم : إنَّ الله يجب عليه ، وتقدم ذكر مذهبهم في ذلك . وقال محمد بن عمر الرازي ما ملخصه : إن قوله : إنما التوبة على الله إعلام بأنه يجب قبولها لزوم إحسان لا استحقاق ، ويتوب عليهم إخبار بأنه سيفعل ذلك . أو يكون الأولى بمعنى الهداية إلى التوبة والإرشاد ، ويتوب عليهم بمعنى يقبل توبتهم . وكان الله عليماً حكيماً . أي عليماً بمن يطيع ويعصى ، حكيماً أي : يضع الأشياء مواضعها ، فيقبل توبة من أناب إليه . .
{ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الاْنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } نفى تعالى أن يكون التوبة للعاصي الصائر في حيز اليأس من الحياة ، ولا للذي وافى على الكفر . فالأول : كفرعون إذ لم ينفعه إيمانه وهو في غمرة الماء والغرق ، وكالذين قال تعالى فيهم : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } وحضور الموت أول أحوال الآخرة ، فكما أن من مات على الكفر لا تقبل منه التوبة في الآخرة ، فكذلك هذا الذي حضره الموت . قال الزمخشري : سوى بين الذين سوفوا توبتهم إلى حضرة الموت ، وبين الذين ماتوا على الكفر أنه لا توبة لهم ، لأن حضرة الموت أول أحوال الآخرة . فكما أنَّ الميت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين ، فكذلك المسوف إلى حضرة الموت ، لمجاوزة كل واحد منهما . أوانَّ التكليف والاختيار انتهى كلامه . وهو على طريق الاعتزال . زعمت المعتزلة أن العلم بالله في دار التكليف يجوز أن يكون نظرياً ، فإذا صار العلم بالله ضرورياً سقط التكليف . وأهلُ الآخرة لأجل مشاهدتهم أهوالها يعرفون الله بالضرورة ، فلذلك سقط التكليف . وكذلك الحالة التي يحصل عندها العلم بالله على سبيل الاضطرار . والذي قاله المحققون : إن القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة ، لأن جماعة من بني