ما يدرك بالحواس وبأول العقل وبديهته ثم لم يصححوا حدوثه ولا أزليته ولا أبطلوا حدوثه وأزليته معا ولم يصححوا أن له خالقا ولا أنه لا خالق له وأبطلوا كلا الأمرين وأبطلوا النبوة وأبطلوا إبطالهما فقد خرجوا يقينا إلى المحال وإلى أقبح قول السوفسطائية وفارقوا بديهة العقل وضرورته التي قد حققوها وصدقوا موجبها إذ لا خلاف بين أحد له مسكه عقل في أن كل ما لم يكن حقا فهو باطل وما لم يكن باطلا فإنه حق وأن اثنين قال أحدهما في قضية واحدة في حكم واحد قال نعم والآخر لا فأحدهما صادق بلا شك والآخر كاذب بلا شك هذا يعلم بضرورة العقل وبديهته وأما قول قائل هذا حق باطل معا من وجه واحد في وقت واحد وقول من قال لا حق ولا باطل فهو بين باطل معلوم بضرورة العقل وبديهته فواجب بإقرارهم أن من قال أن العالم لم يزل وقال الآخر هو محدث أن أحدهما صادق بلا شك وكذلك من أثبت النبوة ومن نفاها فظهر بيقين وضرورة العقل يقينا فساد هذه المقالة إلا أن يبطلوا الحقائق ويلحقوا بالسوفسطائية فيكلمون حينئذ بما تكلم به السوفسطائية مما ذكرناه من قبل وبالله تعالى التوفيق وأما من مال إلى اللذات جملة فإنه إن كان من إحدى هاتين الطائفتين فقد بطل عقده وصح يقينا أنه على ضلال وخطا وباطل وفساد في أصل معتقده الذي أداه إلى الانهماك وإذا بطل شيء بيقين قد بطل ما تولد منه وإن مال إلى أحد الأقوال الأخر فكلها مبطل للزوم اللذات والانهماك فصح ضرورة بطلان هذه الطريقة وإن صار إلى تحقيق الدهرية كلم بما تكلم به الدهرية مما قد أوضحناه والحمد لله وأما من قال بإلزام المرء دين سلفه والدين الذي نشأ عليه فخطأ لا خفاء به لأننا نقول لمن قال بوجوب ذلك ولزومه أخبرنا من أوجبه ومن ألزمه فالإيجاب والإلزام يقتضي فاعلا ضرورة ولا بد منها فمن ألزم ما ذكرتم من أن يلزم المرء دين سلفه أو الدين الذي نشأ عليه الله ألزم ذلك جميع عباده أم غير الله تعالى أوجب ذلك أما إنسان وأما عقل وأما دليل فإن قال بل ما ألزم ذلك إلا من دون الله تعالى قيل له أن من دون الله تعالى معصي مخالف مرفوض لا حق له ولا طاعة إلا من أوجب الله D له فيلزم طاعته لأن الله أوجبها لا لأنها واجبة بذاتها وليس من أوجب شيئا من دون الله تعالى بأولى من آخر أبطل ما أوجب هذا وأوجب بطلانه وفي هذا كفاية لمن عقل ولا ينقاد للزوم من دون الله تعالى إلا جاهل مغرور كالبهيمة تقاد فتنقاد ولا فرق وإن قال أن العقل ألزم ذلك قيل له أنك تدعى الباطل على العقل إذا دعيت عليه ما ليس في بنيته لأن العقل لا يوجب شيئا وإنما العقل قوة تميز النفس بها الأشياء على ما هي عليه فقط ويعرف ما صح وجوبه مما أوجبه من تلزم طاعته مما لم يصح وجوبه مما لم يوجبه من يجب عليه طاعته ليس في العقل المراد به المتميز شيء غير هذا أصلا وأيضا فإن قائل هذا مجاهر بالباطل لأنه لا يخلو أن يكون يزعم أن العقل أوجب ذلك ببديهته أو ببرهان راجع إلى البديهة من قرب أو من بعد فإن ادعى أن العقل يوجب ذلك ببديهته كابر الحس ولم ينتفع بهذا أيضا لأنه لا يعجز عن التوقح بمثل هذه الدعوى أحد في أي شيء شاء وأن ادعى أنه أوجب ذلك برهان راجع إلى العقل كلف المجيء به ولا سبيل إليه أبدا فإن قال أن الله D أوجب ذلك سئل الدليل على صحة هذه الدعوى التي أضافها إلى الباري D وهذا ما لا سبيل إليه لأن ما عند الله D من إلزام لا يعرف البتة إلا يوحى من عنده تعالى إلى رسول من خلفه يشهد له تعالى بالمعجزات وأما بما يضعه الله D في العقول وليس في شيء من هذين دليل على صحة دعوى هذا المدعي وأما احتجاجه بأنه هو الدين الذي اختاره الله D لكل أحد وأنشأ عليه فلا حجة له في هذا لأننا لم نخالفه في أن هذا درب على هذا الدين