إن الأجسام في طبعها الاستحالة والتغير على الإطلاق كذب لأن الفلك جسم لا يقبل الاستحالة وإنما تجب الاستحالة والتغيير في الأجسام المركبة من طبائع شتى بخلعها كيفياتها ولباسها كيفيات أخرى وبانحلالها إلى عناصرها هكذا مدة ما أيضا ثم تبقى غير منحلة أو مستحيلة وأما النفس فإنها تقبل الاستحالة والتغيير في أعراضها فيتغير ويستحيل من علم إلى جهل ومن جهل إلى علم ومن حرص إلى قناعة ومن بخل إلى وجود ومن رحمة إلى قسوة ومن لذة إلى ألم هذا كله موجود محسوس وأما أن تستحيل في ذاتها فتصير ليست نفسا فلا وهذا الكوكب هو جسم ولا يصير غير كوكب والفلك لا يصير غير فلك وأما قوله أن الأجسام محتاجة إلى ما يشدها ويربطها ويمسكها فصحيح وأما قوله أن النفس هي الفاعلة لذلك فكذب ودعوى بلا دليل عليها إقناعي ولا برهاني بل هو تمويه مدلس يجوز باطله على أهل الغفلة وهكذا قول الدهرية وليس كذلك بل النفس من جملة الأجسام المحتاجة إلى ما يمسكها ويشدها ويقيمها وحاجتها إلى ذلك كحاجة سائر الأجسام التي في العالم ولا فرق والفاعل لكل ذلك في النفس وفي سائر الأجسام والممسك لها والحافظ لجميعها والمحيل لما استحال منها فهو المبدي للنفس ولكل ما في العالم من جسم أو عرض والمتمم لكل ذلك هو الله الخالق الباري المصور D فبعض أمسكها بطبائعها التي خلقها فيها وصرفها فضبطها لما هي فيه وبعض أمسكها برباطات ظاهرة كالعصب والعروق والجلود لا فاعل لشيء من ذلك من دون الله تعالى وقد قدمنا البراهين على كل ذلك في صدر كتابنا هذا فأغنى عن ترداده والحمد لله رب العالمين .
وقالوا أيضا كل جسم فهو إما ذو نفس وإما لا ذو نفس فإن كانت النفس جسما فهي متنفسة أي ذات نفس وأما لا متنفسة أي لا ذات نفس فإن كانت لا متنفسة فهذا خطأ لأنه يجب من ذلك أن تكون النفس لا نفسا وإن كانت متنفسة أي ذات نفس فهي محتاجة إلى نفس وتلك النفس إلى أخرى والأخرى إلى أخرى وهذا يوجب ما لا نهاية له وما لا نهاية له باطل .
قال أبو محمد هذه مقدمة صحيحة ركبوا عليها نتيجة فاسدة ليست منتجة على تلك المقدمة وأما قولهم أن كل جسم فهو إما ذو نفس وإما لا ذو نفس فصحيح وأما قولهم أن النفس إن كانت غير متنفسة وجب من ذلك أن تكون النفس لا نفسا فشغب فاسد بارد لا يلزم لأن معنى القول بأن الجسم ذو نفس إنما هو أن بعض الأجسام أضيفت إليه نفس حية حساسة متحركة بإرادة مدبرة لذلك الجسم الذي استضافت إليه ومعنى القول بأن هذا الجسم غير ذي نفس وإنما هو أنه لم يستضف إليه نفس فالنفس الحية هي المتحركة المدبرة وهي غير محتاجة إلى جسم مدبر لها ولا محرك لها فلم يجب أن يحتاج إلى نفس ولا أن تكون ليست نفسا ولا فرق بينهم في قولهم هذا وبين من قال أن الجسم يحتاج إلى جسم كما قالوا أنه يجب أن تحتاج النفس إلى نفس أو قال يجب أن يكون الجسم لا جسما كما قالوا يجب أن تكون النفس لا نفسا وهذا كله هوس وجهل والحمد لله رب العالمين وقالوا لو كانت النفس جسما لكان الجسم نفسا .
قال أبو محمد وهذا من الجهل المفرط المظلم ولو كان القائل هذا الجنون أقل علم بحدود الكلام لن يأت بهذه الغثاثة لأن الموجبة الكلية لا تنعكس البتة انعكاسا مطردا إلا موجبة جزئية لا كلية وكلامهم هذا بمنزلة من قال لما كان الإنسان جسما وجب أن يكون الجسم إنسانا ولما كان الكلب جسما وجب أن يكون الجسم كلبا وهذا غاية الحمق والقحة لكن صواب القول في هذا أن يقول لما كانت النفس جسما كان بعض الأجسام نفسا ولما كان الكلب جسما وجب أن يكون بعض الأجسام كلبا وهذا هو العكس الصحيح المطرد اطرادا صحيحا أبدا وبالله تعالى التوفيق وقالوا أيضا إن كانت النفس جسما فهي بعض الأجسام وإذا كانت كذلك فكلية الأجسام أعظم مساحة منها فيجب أن تكون أشرف منها