قال أبو محمد اختلف الناس في النفس فذكر عن أبي بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم إنكار النفس جملة وقال لا أعرف إلا ما شاهدته بحواسي وقال جالينوس وأبو الهذيل محمد بن الهذيل العلاف النفس عرض من الإعراض ثم اختلفا فقال جالينوس هي مزاج مجتمع متولد من تركيب أخلاط الجسد وقال أبو الهذيل هي عرض كسائر أعراض الجسم وقالت طائفة النفس هي النسيم الداخل الخارج بالتنفس فهي النفس قالوا والروح عرض وهو الحياة فهو غير النفس وهذا قول الباقلاني ومن اتبعه من الأشعرية وقالت طائفة النفس جوهر ليست جسما ولا عرضا ولا لها طول ولا عرض ولا عمق ولا هي في مكان ولا تتجزأ وأنها هي الفعالة المدبرة وهي الإنسان وهو قول بعض الأوائل وبه يقول معمر بن عمرو العطار أحد شيوخ المعتزلة وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالميعاد إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان عاقلة مميزة مصرفة للجسد .
قال أبو محمد وبهذا نقول والنفس والروح اسمان مترادفان لمسمى واحد ومعناهما واحد .
قال أبو محمد أما قول أبى بكر ابن كيسان فإنه يبطله النص وبرهان العقل أما النص فقول الله تعالى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم اخرجوا أنفسكم اليوم الآية فصح أن النفس موجودة وأنها غير الجسد وأنها الخارجة عند الموت .
قال أبو محمد وأما البرهان العقلي فإننا نرى المرء إذا أراد تصفية عقله وتصحيح رأيه او فك مسألة عويصة عكس ذهنه وافرد نفسه عن حواسها الجسدية وترك استعمال الجسد جملة وتبرأ منه حتى انه لا يرى من بحضرته ولا يسمع ما يقال أمامه فحينئذ يكون رأيه وفكره أصفى ما كان فصح ان الفكر والذكر ليسا للجسد المتخلي منه عند إرادتهما وأيضا فالذي يراه النائم مما يخرج حقا على وجهه وليس ذلك إلا إذا تخلت النفس عن الجسد فبقي الجسد كجسد الميت ونجده حينئذ يرى في الرؤيا ويسمع ويتكلم ويذكر وقد بطل عمل بصره الجسدي وعمل أذنيه الجسدي وعمل ذوقه الجسدي وكلام لسانه الجسدي فصح يقينا أن العقل المبصر السامع المتكلم الحساس الذائق هو شيء غير الجسد فصح أن المسمى نفسا إذ لا شيء غير ذلك وكذلك ما تتخيله نفس الأعمى والغائب عن الشيء مما قد رآه قبل ذلك فيتمثله ويراه في نفسه كما هو فصح يقينا أن ههنا متمثلا مدركا غير الجسد إذ لا أثر للجسد ولا للحواس في شيء مما ذكرنا البتة ومنها أنك ترى المريد يريد بعض الأمور بنشاط فإذا اعترضه عارض ما كسل والجسم يحسبه كما كان لم يتغير منه شيء فعلمنا أن ههنا مريدا للأشياء غير الجسد ومنها أخلاق النفس من الحلم والصبر والحسد والعقل والطيش والخرق والنزق والعلم والبلادة وكل هذا ليس لشيء من أعضاء الجسد فإذ لا شك في ذلك فإنما هو كله للنفس المدبرة للجسد ومنها ما يرى من بعض المحصرين ممن قد ضعف جسده وفسدت بنيته وتراه حينئذ أجد ما كان ذهنا وأصح ما كان تمييزا وأفضل طبيعة وأبعد عن كل لغو وأنطق بكل حكمة وأصحهم نظرا وجسده حينئذ في غاية الفساد وبطلان القوى فصح أن المدرك للأمور والمدبر للجسد الفعال المميز الحي هو شيء غير الجسد وهو الذي يسمى نفسا وصح أن الجسد مؤد للنفس ولها مدخلات في الجسد كأنها وقعت في طين مخمر فأنساها شغلها بها كلما سلف لها وأيضا فلو كان الفعل للجسد لكان فعله متماديا وحياته متصلة في حال نومه وموته ونحن نرى الجسد حينئذ صحيحا سالما لم ينتقض منه شيء من أعضائه وقد بطلت أفعاله كلها جملة فصح أن الفعل والتمييز إنما كان لغير الجسد وهو النفس المفارقة وإن الفعال الذاكر قد باينه وتبرأ منه وأيضا فإننا نرى أعضاء الجسد تذهب عضوا عضوا بالقطع والفساد والقوى باقية بحسبها والأعضاء قد ذهبت وفسدت ونجد الذهن والتدبير والعقل وقوى النفس باقية أو فر ما كان فصح ضرورة أن الفعال العالم الذاكر المدير المريد هو غير الجسد كما ذكرنا وأن الجسد