والتوفيق . فقد بلغ الأمرُ في الشَّناعة إِلى حَدٍّ إِذا انتبه العاقلُ لَفَّ رأسه حياءً من العقلِ حين يراه قد قال قولاً هذا مؤداه وسلك مَسْلكاً إِلى هذا مَفضاه . وما مَثَلُ مَنْ يزعمُ أن الفصاحةَ صفةُ اللفظ من حيثُ هو لفظٌ ونطقُ لسانٍ ثم يزعمُ أنه يدَّعيها لمجموع حروفِه دونَ آحادها إِلاّ مَثَلُ من يزعمُ أن هاهنا غَزْلاً إِذا نُسجَ منه ثوبٌ كان أحمرَ وإِذا فُرِّق ونُظر إليه خيطاً خيطاً لم تكنْ فيه حمرةٌ أصلاً .
ومن طريفِ أمرِهم أنك ترى كافَّتَهم لا يُنكرون أن اللفظ المستعارَ إِذا كان فصيحا كانت فصاحته تلك من أجل استعارتِه ومن أجل لطفٍ وغرابةٍ كانا فيها . وتراهُم مع ذلك لا يشكّون في أن الاستعارة لا تُحدِثُ في حروفِ اللفظ صفةً ولا تُغيِّر أجراسَها عما تكونُ عليه إِذا لم يكن مستعاراً وكان متروكاً على حقيقته . وأنّ التأثيرَ من الاستعارة إِنما يكون في المعنى . كيفَ وَهُم يعتقدون أن اللفظَ إِذا استعيرَ لشيء نُقِل عن معناه الذي وُضع له بالكلية . وإِذا كان الأمرُ كذلك فلولا إِهمالُهم أنفسَهم وتركهم النظرَ لقد كان يكونُ في هذا ما يوقظُهم من غَفْلَتِهم ويكشفُ الغطاءَ عن أعينهم .
فصل علاقة الفكر بمعاني النحو .
ومما ينبغي أن يعلمَه الإِنسانُ ويجعلَه على ذكرِ أنه لا يتصوَّر أن يتعلَّق الفكرُ بمعاني الكلم أفراداً ومجرَّدة من معاني النحو فلا يقوم في وهمٍ ولا يصحُّ في عَقْل أن يتفكرَ متفكِّر في معنى فعلٍ من غيرِ أن يريدَ إِعمالَه في اسمٍ . ولا أن يتفكَّر في معنى اسم من غير أن يريدَ إِعمال فعلٍ فيه وجعله فاعلاً له أو مفعولاً . أو يريدَ منه حكماً سوى ذلك من الأحكام مثل أن يريدَ جعلَه مبتدأ أو خبراً أو صفة أو حالاً أو ما شاكل ذلك . وإِن أردتَ أن ترى ذلك عِياناً فاعمِد إِلى أيِّ كلام شئتَ وأزِلْ أجزاءه عن مواضعها وضَعْها وضعاً يمتنعُ معه دخولُ شيءٍ من معاني النحو فيها فقل في : .
( قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ ... ) .
" من نبك قفا حبيب ذكرى منزل " ثم انظرْ هل يتعلَّق منك فكرٌ بمعنى كلمة منها