فصل في أن الفصاحة في الكلمة لا في حروفها .
وبيانٌ آخرُ وهو أن القارىء إِذا قرأ قولَه تعالى : ( واشْتَعَلَ الرَّأَسُ شَيْباً ) فإِنه لا يَجِدُ الفصاحةَ التي يجدُها إِلاَّ من بعدِ أن ينتهيَ الكلام إِلى آخرهِ . فلو كانت الفصاحةُ صفةً للفظ " اشتعل " لكان ينبغي أن يُحسَّها القارىءُ فهي حالَ نطقه به فمحالٌ أن تكونَ للشيء صفةً ثم لا يصحُّ العلم بتلك الصفةِ إِلاَّ من بعد عَدَمِه . ومَنْ ذا رأى صفة يَعْرى موصوفُها عنها في حالِ وجودهِ حتى إِذا عُدِمَ صارت موجودةً فيه وهل سَمِع السامعون في قديم الدهر وحديثه بصفةٍ شرطُ حصولها لموصوفها أنْ يُعْدَمَ الموصوفُ فإِن قالوا إِن الفصاحة التي ادَّعيناها للفظ " اشتعل " تكونُ فيه في حال نُطقنا به إِلا أنَّا نعلم في تلك الحال أنها فيه فإِذا بلغنا آخرَ الكلام علمنا حينئذٍ أنها كانت فيه حينَ نَطَقْنا . قيل : هذا فنٌّ آخرُ من العَجَب وهو أن تكونَ هاهُنا صفةٌ موجودةٌ في شيءٍ ثم لا يكونُ في الإِمكان ولا يسعُ في الجواز أن نَعْلَمَ وجودَ تلك الصفة في ذلك الشيء إِلا بعد أن يعدمَ . ويكونُ العلمُ بها وبكونها فيه محجوباً عَنّا حتى يَعدمَ فإِذا عُدِمَ علمنا أنها كانت فيه حينَ كانَ .
ثم إِنه لا شُبهةَ في أن هذه الفصاحةَ التي يدَّعونها للفظ هي مدعاةٌ لمجموعِ الكلمة دون آحاد حروفها إِذ ليس يبلغُ بهم تهافتُ الرأي إِلى أن يدَّعوا لِكلِّ واحدٍ من حروفِ " اشتعل " فصاحةً فيجعلوا الشينَ على حِدَتِه فصيحاً وكذلك التاء والعين واللام . وإِذا كانتِ الفصاحةُ مُدّعاةً لمجموعِ الكلمة لم يُتصوَّر حصولُها لها إِلاّ من بعد أن تعدم كلها وينقضي أمرُ النطقِ بها . ذلك لأنه لا يُتصوَّر أن تدخل الحروفُ بجملتها في النطق دفعةً واحدة حتى تجعلَ الفصاحةَ موجودةً فيها في حالِ وجودها وما بعد هذا إِلاّ أن نسأل اللهَ تعالى العصمةَ