واعلمْ أني لستُ أقول إِن الفِكْر لا يتعلَّق بمعاني الكلم المفردة أصلاً ولكني أقولُ إِنه لا يتعلَّق بها مجرَّدةً من معاني النحو ومنطوقاً بها على وجهٍ لا يتأتَّى معه تقديرُ معاني النحو وتوخّيها فيها كالذي أريتُك . وإِلا فإِنّك إِذا فكّرتَ في الفعلين أو الاسمين تريدُ أن تخبرَ بأَحَدِهِما عن الشيء أيُّهما أَولى أن تُخبرَ به عنه وأشبهُ بغرضك مثل أن تنظرَ أيُّهما أمْدَحُ وأذمُّ أو فكّرتَ في الشيئين تريدُ أن تشبِّه الشيءَ بأحدِهما أيّهما أشبهُ به كنتَ قد فكرتَ في معاني أنفُسِ الكلم . إِلاّ أنَّ فكرك ذلك لم يكن إِلاّ من بعد أن توخَّيتَ فيها من معاني النحو وهو أن أردتَ جعلَ الاسم الذي فكرتَ فيه خبراً عن شيءٍ أردتَ فيه مدحاً أو ذماً أو تشبيهاً أو غيرَ ذلك من الأغراضِ . ولم تَجىءْ إِلى فعل أو اسم فكَّرْتَ فيه فرداً ومن غير أن كان لك قَصْدٌ أنْ تجعلَه خبراً أو غيرَ خبرٍ فاعرِفْ ذلك . وإِن أردتَ مثالاً فخذ بيتَ بشار - الطويل - : .
( كأن مُثارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُؤوسنا ... وأَسْيافَنا لَيْلٌ تَهاوى كَواكِبُهْ ) .
وانظرْ هل يتصورُ أن يكون بشارٌ قد أخطرَ معاني هذا الكلم بباله أفراداً عاريةً من معاني النحو التي تراها فيها وأن يكونَ قد وقَع " كأنّ " : في نفسه من غيرِ أن يكونَ قَصَدَ إِيقاعَ التشبيه منه على شيء وأنْ يكونَ فكَّر في " مُثار النقع " من غير أن يكونَ أراد إِضافةَ الأول إِلى الثاني وفكَّر في " فوق رؤوسنا " من غير أن يكون قد أرادَ أن يضيفَ " فوق " إِلى الرؤوس وفي الأسيافِ من دون أن يكونَ أرادَ عطفَها بالواو على " مثار " وفي الواو من دونِ أن يكونَ أرادَ العطف بها وأن يكون ذلك فكَّر في " اللَّيل " مِنْ دونِ أن يكونَ أرادَ أن يجعلَه خبراً لكأن وفي " تَهَاوَى كواكِبُه " من دون أن يكون أرادَ أن يجعلَ تهاوى فعلاً للكواكب ثم يجعل الجملةَ صفةً لليل ليتمَّ الذي أراد من التشبيه أم لم تخْطُرْ هذه الأشياءُ ببالهِ إِلاّ مُراداً فيه هذه الأحكامُ والمعاني التي تراها فيها .
وليت شعري كي يتصورُ وقوعُ قَصْدٍ منك إِلى معنى كلمةٍ من دُونِ أن تريدَ تعليقَها