تتكلَّفُ تعريفَه لعلمك أنه قد عدمَ الأداةَ التي معها يَعرفُ والحاسَّةَ التي بها يَجدُ . فليكن قَدْحُك في زَنْدٍ وارٍ والحكُّ في عُودٍ أنت تطمعُ منه في نار .
واعلمْ أن هؤلاء وإنْ كانوا هم الآفَةَ العظمى في هذا البابِ فإِن منَ الآفَةِ أيضاً مَن زعمَ أنه لا سبيلَ إِلى معرفةِ العِلَّةِ في قليلِ ما تُعْرَفُ المزيةُ فيه وكثيرِه وأنْ ليس إِلا أن تعلمَ أنَّ هذا التقديمَ وهذا التنكيرَ أو هذا العطْفَ أو هذا الفصْلَ حسَنٌ . وأن له موقعاً من النفسِ وحظّاً من القَبولِ . فأمّا أن تَعْلَمَ لِمَ كان كذلك وما السَّببُ فممَّا لا سبيلَ إِليه ولا مطمعَ في الاطِّلاعِ عليه فهو بتوانِيه والكسلِ فيه في حكمِ مَن قالَ ذلك .
واعلمْ أنه ليسَ إِذا لم يُمكنْ معرفةُ الكلِّ وجبَ تركُ النظرِ في الكل . وأن تعرفَ العلةَ والسَّبَب فيما يمكنك معرفةُ ذلك فيه وإِنْ قلَّ فتجعلَه شاهداً فيما لم تعرفْ أَحرى من أن تسُدَّ بابَ المعرفة على نفسِك وتأخذها عن الفهم والتفهُّم وتعوِّدَها الكسلَ والهُوينى . قال الجاحظُ : " وكلامٌ كثيرٌ قد جَرى على ألسنةِ الناس وله مَضَرّةٌ شديدةٌ وثَمرةٌ مُرَّةٌ . فمِنْ أضرِّ ذلك قولُهم : لم يدَعِ الأولُ للآخرِ شيئاً . قال : فلو أن علماءَ كلِّ عصرٍ مُذْ جرتْ هذه الكلمةُ في أَسماعِهِم تَركوا الاستنباطَ لِمَا لم يَنتهِ إِليهم عمَّن قبلَهُم لرأيتَ العلمَ مُختلاًّ " .
واعلمْ أن العلمَ إِنما هو معدِنٌ فكما أنه لا يمنعُك أنْ ترى ألفَ وِقْرٍ قد أخرجتْ من معدنِ تبْرٍ أن تطلبَ فيه وأن تأخذَ ما تجد ولو كَقَدْرِ تُومةٍ كذلكَ ينبغي أن يكون رأيُك في طلبِ العلمِ ومنَ الله تعالى نسألُ التوفيقَ