قد تَناهى في الغموضِ والخفاءِ إلى أقصى الغايات وأنكَ لا ترى أغربَ مذهباً وأعجَب طريقاً وأحرى بأن تضطربَ فيه الآراء منه . وما قولُكَ في شيءٍ قد بلَغ من أمْرِه أن يُدَّعَى على كبار العلماءِ بأنهم لم يعلموه ولم يفطِنوا له فقد ترى أنَّ البحتريَّ قال حينَ سئِل عن مسلمٍ وأبي نواس : أيُّهما أشعرُ فقال : أبو نواس : فقيل : فإِنَّ أبا العباس ثَعلباً لا يوافقُك على هذا . فقال : ليس هذا من شأنِ ثعلبٍ وذَويهِ من المُتعَاطِينَ لعلمِ الشعر دونَ عملهِ إنما يعلُم ذلك من دُفِعَ في مسْلكِ طريقِ الشعر إِلى مضايقهِ وانتهى إلى ضروراته .
ثم لم يَنْفَكَّ العالِمون به والذين هم من أهلِه من دخول الشُّبهة فيه عليهم ومن اعتراض السَّهْوِ والغلطِ لهم . رُوي عن الأَصمعيِّ أنه قال : كنتُ أسيرُ مع أبي عمرِو بنِ العلاء وخلفٍ الأَحمر . وكانا يأتيان بشاراً فيسلِّمان عليه بغايةِ الإِعْظام ثم يقولانِ يا أبا مُعاذٍ ما أحدثْتَ فيخبُرهما وينشِدُهما ويسألانه ويكتبانِ عنه متواضِعَيْنِ له حتى يأتي وقتُ الزَّوالِ . ثم ينصرفان . وأتياه يوماً فقالا : ما هذه القصيدةُ التي أحدثْتَها في سَلْمِ بنِ قُتَيْبَةَ قال : هي التي بلغتكُم . قالوا : بلغَنَا أنَّك أكثرتَ فيها مِنَ الغريبِ . قال : نعَمْ بلغني أنَّ سَلْم بنَ قتيبةَ يتباصَرُ بالغريب فأحببت أن أورِدَ عليه ما لا يَعْرِفُ . قالوا : فأنشِدْناها يا أبا معاذ . فأنشدَهما من الخفيف : .
( بكِّرا صاحِبيَّ قبلَ الهَجيرِ ... إِنّ ذاكَ النجاحَ في التَّبكيرِ ) .
حتى فرغَ منها فاقل له خلفٌ : لو قلتَ يا أبا مُعاذٍ مكانَ " إِنَّ ذاك النجاحَ في التبكيرِ " : .
( بَكِّرا فالنَّجاحُ في التَّبْكيرِ ... ) .
كان أحسَنَ . فقال بشارٌ : إِنما بنيتهُا أعرابيةً وحشيّةً فقلتُ : " إِنَّ ذاك النجاح في التبكير " كما يَقولُ الأَعراب البدويون . ولو قلت : " بكرا فالنجاح " كانَ هذا من كلامِ