لا يُشكُّ في بطلانِه . وعلى ذلك قولُ أهل اللغةِ : عَيْنٌ جَمُود لا ماءَ فيها وسنةٌ جَمادٌ لا مطرَ فيها وناقةٌ جماد لا لبنَ فيها . وكما لا تُجْعَل السنةُ والناقةُ جماداً إِلاّ على معنى أن السَّنةَ بخيلةٌ بالقَطْرِ والناقةَ لا تسْخُو بالدَّرِ . كذلك حُكْمُ العينِ لا تُجْعَلُ جَمُوداً إِلا وهناكَ ما يَقْتضي إِرادةَ البكاءِ منها وما يجعلُها إِذا بكَتْ مُحسِنَةً موصوفَةً بأن قَدْ جادتْ وسخَتْ . وإِذا لم تبكِ مُسيئةً موصوفةً بأن قد ضَنَّتْ وَبَخِلَتْ .
فإِنْ قيل : إِنه أرادَ أن يقولَ : إِني اليومَ أتجرَّعُ غُصَصَ الفراقِ وأحمِلُ نفسي على مُرِّه وأحتملُ ما يُؤَدّيني إِليه من حُزْنٍ يفيضُ الدموعَ من عيني ويسكبُها لكي أتسبَّبَ بذلك إلى وصْلٍ يدومُ ومسرَّةٍ تتصلُ حتى لا أعرفَ بعدَ ذلك الحزْنَ أصلاً ولا تعرفَ عيني البكاءَ وتصيرَ في أن لا تُرى باكيةً أبداً كالجَمود التي لا يكونُ لها دمعٌ فإِنَّ ذلكَ لا يستقيمُ ويستتبُّ لأنه يوقعُه في التَّناقُضِ ويجعلهُ كأنه قال : أحتملُ البكاءَ لهذا الفراقِ عاجلاً لأصيرَ في الآجلِ بدوامِ الوصلِ واتصالِ السُّرورِ في صورةِ من يريدُ مِن عينِه أن تبكيَ ثم لا تبكي لأَنها خُلِقَتْ جامدةً لا ماءَ فيها . وذلك من التَّهافِت والاضطرابِ بحيثُ لا تنجَعُ الحيلةُ فيه .
وجملةُ الأمرِ أنَّا لا نعلمُ أحداً جعلَ جمودَ العين دليلَ سرورٍ وأمارةَ غِبْطةٍ وكنايةٍ عن أنَّ الحالَ حالُ فرحٍ . فهذا مثالٌ فيما هو بالضِّدِّ مما شرطوا من أنْ لا يكونَ لفظُه أسبقَ إلى سَمعك من معناهُ إِلى قلبكِ لأنَك ترى اللفظَ يصِلُ إِلى سمعِكَ وتحتاجُ إِلى أن تَخُبَّ وتُوضِعَ في طلبِ المعنى . ويجري لك هذا الشرحُ والتفسيرُ في النظمِ كما جرَى في اللفظِ لأنه إِذا كان النظمُ سويّاً والتأليفُ مستقيماً كان وصولُ المعنى إِلى قلبِك تِلْوَ وصولِ اللفظِ إِلى سمْعِك . وإِذا كان على خلافِ ما ينبغي وصَلَ اللفظُ إلى السمعِ وبقيتَ في المعنى تطلبُه وتتعَبُ فيه . وإِذا أفرط الأمرُ في ذلكَ صارَ إِلى التعقيدِ الذي قالوا : إِنه يستهلِكُ المعنى .
واعلمْ أنْ لم تَضِقِ العبارةُ ولم يقصِّرِ اللفظُ ولم ينغلقِ الكلامُ في هذا الباب إِلاّ لأنه