وقال الآخرُ - الخفيف - : .
( يا أبا جَعْفَرٍ تَحَكَّمُ في الشِّعرِ ... ومَا فيكَ آلةُ الحُكَّامِ ) .
( إنَّ نَقْدَ الدِّينارِ إلاّ على الصَّيْرفِ ... صَعْبٌ فكيفَ نَقْدُ الكَلامِ ) .
( قَدْ رأينَاكَ لَسْتَ تفْرُقُ في الأَشْعارِ ... بَيْنَ الأَرْواحِ والأجْسامِ ) .
واعلمْ أنهم لم يَعيبوا تقديمَ الكلام بمعناه من حيثُ جَهِلوا أنّ المعنى إذا كان أدباً وحكمةً وكان غريباً نادراً فَهو أشرفُ مما ليس كذلكَ بل عابوه من حيثُ كان مِنْ حكمِ من قضى في جنسٍ من الأجناسِ بفضلٍ أو نقصٍ أن لا يعتبرَ في قَضيَّتِهِ تلك إلاّ الأوصافَ التي تخصُّ ذلك الجنسَ وترجعُ إلى حقيقتِه . وأن لا ينظَر فيها إلى جنسٍ آخرَ وإنْ كان من الأوَّل بسبيلٍ أو متصلاً به اتِّصالَ ما لا يَنْفَكُّ منه . ومعلومٌ أنَّ سبيلَ الكلامِ سبيلُ التصويرِ والصياغةِ وأنَّ سبيلَ المعنى الذي يعبَّر عنه سبيلُ الشيءِ الذي يقعُ التصويرُ والصَّوغُ فيه كالفضةِ والذهبِ يصاغُ منهما خاتَمٌ أو سِوارٌ . فكما أنَّ مُحالاً إذا أنتَ أردتَ النظرَ في صَوغِ الخاتمِ وفي جودةِ العملِ ورداءتِهِ أن ينظرَ إلى الفضةِ الحاملةِ تلك الصورةِ أو الذهبِ الذي وقعَ فيه العملُ وتلك الصنعةُ - كذلك محالٌ إِذا أردتَ أن تعرفَ مكانَ الفضلِ والمزيةِ في الكلامِ أن تَنْظُرَ في مجرَّدِ معناهُ . وكما أنَّا لو فَضَّلْنا خاتماً على خاتَمٍ بأنْ تكونَ فضةُ هذا أجودَ أو فصُّه أنفسَ لم يكنْ ذلك تفضيلاً له من حيثُ هو خاتمٌ . كذلك ينبغي إذا فضَّلنا بيتاً على بيتٍ من أجلِ معناه أن لا يكون ذلك تَفضيلاً له مِنْ حيثُ هو شعرٌ وكلامٌ وهذا قاطعٌ فاعرفُه .
واعلمْ أنك لستَ تنظرُ في كتابٍ صُنِّفَ في شأنِ البلاغةِ وكلامٍ جاءَ عن القدماءِ إلاّ وجدتَه يدلُّ على فسادِ هذا المذهبِ . ورأيتَهُم يتشدَّدون في إنكارِه وعيبِه والعيبِ به . وإِذا نظرتَ في كتب الجاحظِ وجدتَه يبلغُ في ذلك كلَّ مَبلغٍ ويتشدَّدُ غايةَ التشدُّد . وقد انتهى في ذلك إلى أنْ جعلَ العلمَ بالمعنى مشتركاً وسوَّى فيه بينَ الخاصةِ والعامةِ فقالَ :