( فَقُلْتَ : عَسى أّنْ تُبْصِريني كأنَّما ... بَنِيَّ حَواليَّ الأُسودُ الحَوارِدُ ) .
قولُه : " كأنما بنيَّ " إلى آخرهِ في موضعِ الحال من غَيْرِ شُبْهة . ولو أنك تَرَكْتَ " كأن " فقلتَ : عسى أن تبصريني بنَّي حواليَّ كالأَسود . رأيَته لا يحسُن حُسْنَه الأولَ ورأيتَ الكلامَ يقتضي الواو كقولكَ : عسى أن تُبصريني وبَنَّي حوالَّي كالأّسود الحواردِ .
وشبيهٌ بهذا أنك ترى الجُملة قد جاءتْ حالاً بِعقبِ مُفْردٍ فَلَطُفَ مكانُها . ولو أنك أردتَ أن تجعلَها حالاً من غيرِ أن يَتقدَّمَها ذلك المفردُ لم يحسُنْ . مثالُ ذلك قولُ ابنِ الرومي - السريع - : .
( واللّهُ يُبقيكَ لنا سَالِماً ... بُرْداكَ تَبْجيلٌ وتَعْظيمُ ) .
فقولُه : بُرْداك تبجيلٌ في مَوْضِع حالٍ ثانية . ولو أنَّك أسقطتَ " سالماً " من البيت فقلتَ " واللّهُ يُبقيكَ برداكَ تبجيلٌ . لم يكن شيئاً .
وإذْ قد رأيتَ الجملَ الواقعةَ حالاً قد اختلفَ بها الحالُ هذا الاختلافَ الظاهرَ فلا بُدْ من أن يكونَ ذلك إنَّما كان من أجلِ عِلَلٍ تُوجِبُه وأسبابٍ تَقْتضيِه . فمحالٌ أن يكونَ هاهُنا جملةٌ لا تَصِحُّ إلاَّ مع الواوِ وأخرى لا تَصْلُحُ فيها الواوُ وثالثةٌ تَصْلُحُ أن تجيءَ فيها بالواو وأن تَدَعَها فلا تجيءُ بها . ثم لا يكونُ لذلك سببٌ وعلَّةٌ . وفي الوقوفِ على العِلَّة في ذلك إشكالٌ وغموضٌ . ذاك لأنَّ الطريقَ إليه غيرُ مسلوكٍ والجهةَ التي منها تُعْرَف غيرُ معروفة . وأنا أكتبُ لك أصلاً في الخبرِ إذا عرفتَه انفتحَ لك وجُه العِلة في ذلك .
واعلمْ أن الخبرَ ينقسم إلى خَبَرٍ هو جزءٌ منَ الجملة لا تتمُّ الفائدةُ دونه وخبرٍ ليس بجزءٍ مِنَ الجملةِ ولكنَّه زيادةٌ في خَبَر آخرَ سابقٍ له . فالأولُ خبرُ المبتدا كمُنْطَلِقٍ في قَوْلِكَ : زيدٌ منطلقٌ . والفعلُ كقولك : خرجَ زيدٌ . وكلُّ واحدٍ من هذين جزءٌ من الجملة وهو الأصلُ في الفائدة . والثاني هو الحالُ كقولك : جاءني زيدٌ راكباً . وذاك لأن الحالَ خبرٌ في الحقيقة من حَيْثُ إنك تُثْبتُ بها المعنى لذي الحالِ كما تُثبِته بالخبرِ للمبتدأ وبالفعلِ للفاعل . ألا تراكَ قد أثبتَّ الركوبَ في قولك : جاءني زيدٌ راكباً لزيدٍ إلا أن الفَرْقَ أنك