مُختلفة وأهواءٍ مُتعادية تَرى كُلاًّ منهم - لحُبِّه نفسَهُ وإيثارهِ أن يدفعَ النّقْصَ عنها - يقدَّمُ ما يُحسِنُ من أنواعِ العلمِ على ما لا يُحسِنُ . ويحاولُ الزَّراية على الذي لم يحظَ به والطَّعنَ على أهلهِ وَالغَضَّ منهم . ثم تتفاوتُ أحوالُهم في ذلك : فمن مغمورٍ قد استهلكَهُ هَواهُ وبَعُد في الجَورِ مَداهُ ومن مُترجَّحٍ فيه بينَ الإِنصافِ والظُّلمْ يجورُ تارةً ويعدلُ أخرى في الحُكْم . فأما مَن يَخلُصُ في هذا المعنى من الحَيْفِ حتّى لا يقضيَ إلا بالعدلِ وحتى يصدُرَ في كلَّ أمرِه عنِ العقلِ فكالشّيءِ الممتنعِ وجودُه . ولم يكنْ ذلك كذلك إلا لشرفِ العِلم وجليلِ مَحلَّه وأنَّ محبَّتَه مركوزةٌ في الطَّباع ومركَّبةٌ في النُّفوس وأنّ الغَيرةَ عليه لازمةٌ للجِبِلّة وموضوعةٌ في الفِطرة وأنّه لا عيبَ أعيبُ عندَ الجميعِ مِن عَدمِه ولا ضَعَة أوضعُ من الخُلوَّ عنه فلم يُعاد إذاً إلا من فَرْط المحبةَّ ولم يُسمحْ به إلا لشدّةِ الضَّنَّ .
ثم إنّك لا تَرى عِلماً هو أرسخُ أصلاً وأَبسقُ فَرعاً وأَحلى جَنًى وأعذبُ وِرداً وأكرمُ نَتاجاً وأنورُ سراجا مِن علمِ البيان الذي لولاه لم تَرَ لساناً يحُوكُ الوَشيَ ويصوغُ الحَلْيَ ويلفُظُ الدُّرَّ وينفَثُ السِّحرَ ويقري الشَّهْدَ ويُريكَ بدائعَ منَ الزَّهر ويُجنيكَ الحلوَ اليانعَ من الثَّمر . والذي لولا تحفَّيهِ بالعُلومِ وعنايَتُه بها