ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن ذم المشيب فقلت والعيش كل العيش في سن الحداثة وما يأتي بعدها فلا يدعى إلا بسن الغثاثة وليس بعد الأربعين من مصيف للذة ولا مربع وهي نهاية القوة الصالحة من الطبائع الأربع فإذا تجاوزها المرء أشفت ثمار عمره على خرصها وصارت زيادته كزيادة التصغير التي هي زيادة تدل على نقصها وأصبح بعد ذلك يدعى أبا بعد أن كان يدعى ابنا وتقمص ثوبا من المشيب لا يجر ثوبه خيلاء ولا يزهى به حسنا وإن قيل إن أحسن الثياب شعار البياض قيل إلا هذا الثوب فإنه مستثنى ويكفيه من الفظاظة أن ينظر الأحباب إليه نظر القتال ولولا أن الخمود بعده لما استعير له لفظة الاشتمال ومن الناس من يدلس لونه بصبغة الخضاب وليس ذلك إلا حدادا على فقد الشباب وهو في فعله هذا كاذب ولا يخفى أنس الصادق من وحشة الكذاب وخداع النفس أن تسلو عن بئره المعطلة وقصره المشيد ويحسن لها الخروج في ثوب مرقع وهي تراه بعين الثوب الجديد .
وبعض هذا مأخوذ من شعر ابن الرومي وهو قوله .
( رَأَيْتُ خِضَابَ الْمَرْءِ بَعْدَ مَشِيبِهِ ... حِدَاداً عَلَى شَرْخِ الشَّبِيبةِ يُلْبَسُ ) .
غير أن في هذا الفصل معاني كثيرة لطيفة لا توجد في كلام آخر .
ومن ذلك قولي في وصف الجود والسخاء وهذا الفصل يشتمل على معان متعددة فمنها قولي في العطاء وهو شافهتني أسباب الغنى برؤيته حتى كادت تنطق واخضرت أكنان منزلي بعطائه حتى كادت تورق ومن فضيلة بره أنه لا يأتي به على أعين الناس وإذا غرسه عند إنسان رب ذلك الغراس فلا يستكثر ما جادت به سحاب يده ولا يمنعه عطاء يومه عن عطاء غده .
وبعض هذا المعنى مأخوذ من شعر أبي نواس .
( كَانوا إذَا غَرَسٌوا سَقَوْا وَإِذَا بَنَوْا ... لَمْ يَهْدِمُوا لِبِنَائِهِمْ أسُسَا ) .
ومن هذا المعنى أيضا قولي وهو أخذ المكارم من سمائها وأرضها وقام بنفلها في الناس وفرضها وتحلى ببعض أسماء الشهور حتى أصبح بعضها حاسدا