وهذا الفصل فيه زيادة على الفصل الذي قبله .
وإذا انتهى بنا الكلام إلى ههنا في التنبيه على نثر الشعر وكيفية نثره وذكر ما يسهل منه وما يعسر فلنتبع ذلك بقول كلي في هذا الباب فنقول .
من أحب أن يكون كاتبا أو كان عنده طبع مجيب فعليه بحفظ الدواوين ذوات العدد ولا يقنع بالقليل من ذلك ثم يأخذ في نثر الشعر من محفوظاته وطريقه أن يبتدئ فيأخذ قصيدا من القصائد فينثره بيتا بيتا على التوالي ولا يستنكف في الابتداء أن ينثر الشعر بألفاظه أو بأكثرها فإنه لا يستطيع إلا ذلك وإذا مرنت نفسه وتدرب خاطره ارتفع عن هذه الدرجة وصار يأخذ المعنى ويكسوه عبارة من عنده ثم يرتفع عن ذلك حتى يكسوه ضروبا من العبارات المختلفة وحينئذ يحصل لخاطره بمباشرة المعاني لقاح فيستنتج منها معاني غير تلك المعاني وسبيله أن يكثر الإدمان ليلا ونهارا ولا يزال على ذلك مدة طويلة حتى يصير له ملكة فإذا كتب كتابا أو خطب خطبة تدفقت المعاني في أثناء كلامه وجاءت ألفاظه معسولة لا مغسولة وكان عليها حدة حتى تكاد ترقص رقصا وهذا شيء خبرته بالتجربة ولا ينبئك مثل خبير .
فإن قيل الكلام قسمان منظوم ومنثور فلم حضضت على حفظ المنظوم وجعلته مادة للمنثور وهلا كان الأمر بالعكس .
قلت في الجواب إن الأشعار أكثر والمعاني فيها أغزر وسبب ذلك أن العرب الذين هم أصل الفصاحة جل كلامهم شعر ولا نجد الكلام المنثور في كلامهم إلا يسيرا ولو كثر فإنه لم ينقل عنهم بل المنقول عنهم هو الشعر فأودعوا أشعارهم كل المعاني كما قال الله تعالى ( ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ) ثم جاء الطراز الأول من المخضرمين فلم يكن لهم إلا الشعر ثم استمرت الحال على ذلك فكان الشعر هو الأكثر والكلام المنثور بالنسبة إليه قطرة من بحر ولهذا صارت المعاني كلها مودعة في الأشعار وحيث كانت بهذه الصورة فكان حثي على حفظها واستعمال معانيها في الخطب والمكاتبات لهذا السبب