وهذا البيت الثاني يشتمل على المعنيين التام والمقدر أما التام فإن ابن كوز سأل أبا هذه الجارية أن يزوجه إياها في سنة والسنة الجدب فرده وقال قد غذا الناس البنات مذ قام النبي وأنا أيضا أغذو هذه ولولا ذلك لوأدتها كما كانت الجاهلية تفعل وفيه وجه آخر وهو أنهم كانوا يئدون البنات قبل الإسلام فلما جاء النبي نهى عن ذلك فقوله ( غذا الناس مذ قام النبي الجواريا ) أي في النساء كثرة فتزوج بعضهن وخل ابنتي وهذان المعنيان هما اللذان دل عليهما ظاهر اللفظ وأما المعنى المقدر الذي يعلم من مفهوم الكلام فإنه يقول إن النبي أمر بإحياء البنات ونهى عن الوأد ولو أنكحتكها لكنت قد وأدتها إذ لا فرق بين إنكاحك إياها وبين وأدها وهذا ذم للمخاطب وهو معنى دقيق ومجيء المعاني المستخرجة من المفهومة قليل من الشعر .
وأما ما يستدل عليه بقرينة ليست من توابعه فإن ذلك أدق من الأول وألطف مأخذا .
فمما ورد منه قول النبي ( من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين ) فهذا يستخرج منه المعنيان المشار إليهما فالتام منهما يدل على أنه من جعل قاضيا فقد عرض نفسه لخطر عظيم كالذبح بغير سكين وأما المقدر فإنه يدل على أنه من جعل قاضيا فقد أمر بمفارقة هواه وهذا لا يدل عليه اللفظ بنفسه بل يستدل عليه بقرينة أخرى ولكنها ليست من توابعه ووجه ذلك أن لفظ الحديث عام يشمل القضاة على الإطلاق ولا يخلو إما أن يراد به عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا ولا يجوز أن يكون المراد به عذاب الآخرة لأنه ليس كل قاض معذبا في الآخرة بل المعذب منهم قضاة السوء فوضح بهذا أن المراد بالحديث عذاب الدنيا وعلى هذا فلا يخلو إما أن يكون العذاب صورة أو معنى ولا يجوز أن يكون صورة لأنا نرى الإنسان إذا جعل قاضيا لا يذبح ولا يناله شيء من ذلك فبقي أن يكون المراد به عذابا معنويا وهو الذبح المجازي غير الحقيقي وفحوى ذلك أن نفس الإنسان مركبة على حب هواها فإذا جعل قاضيا فقد أمر بترك ما جبل على حبه من الامتناع عن الرشوة والحكم لصديقه على عدوه ورفع