وليس بين الساعة وبين عرض بَزّه ونشْر طَرزِه إلاّ كالوقْت بين الوِرْد والقَرَب . وسيردُّ عليكَ من محاسن أشعاره ما تفخر به دواوين العرب . فممّا أنشدني الشيخ الرئيس أبو المحاسن C لنفسه قوله من كلمة له : .
وليلةٍ نُتجَ البدرُ التّمامُ بها ... من الضِّياء صباحاً ساطع النُّورِ .
ساقَيتُ كأساً من التَّسهيد أنجُمَها ... فجرَّرتْ ذيلَ سُكري أيَّ تَجريرِ .
كم قلتُ حين جَرَتْ خيلُ الصِّبا خَبباً : ... يا لَلجياد التي تَحكي الصَّبا سيري .
عَمْرُ العُلا أنّني أسْمو سَماوتَها ... وإنْ أعذَّرْ فإنّي غيرُ معذورِ .
ما عُذرُ مَنْ أمكنتْهُ في العُلا فُرصٌ ... فانصاع يجري إلى عجزٍ وتَقصير .
وأنشدني أيضاً لنفسه : .
وليلٍ فاخِتيَّ الغَيمِ فيه ... غِناءٌ للفواختِ والقَماري .
لبسْنا فيه جِلبابَ التَّصابي ... إلى أنْ رقَّ جِلبابُ النهار .
ونثره يربي على نظمه في قُربه من الأفهام وبعده عن المَرام : .
كذاكَ الشمسُ تبعُدُ أنْ تُسامى ... ويَدنو الضوءُ منها والشعاعُ .
الإمام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن .
اتفقتْ على إمامته الألسنة وتجمّلت بمكانه وزمانه الأمكنة والأزمنة . وأثنى عليه طيبُ العناصر وثُنيتْ به عقود الخناصر . فهي فردٌ في علمه الغزير لا بل هو العلم الفرد في الأئمة المشاهير . وقد أفادني الشيخ أبو عامر مما ألقاه بحرُ الفضل على لسانه ما نطَق لسان الدهر باستحسانه .
ولستُ فيما فاتَني من كريم مشاهدته واشتْيار لذيذ الشهد من مذاكراته أيام أسعدتني الأيام منه بدنوِّ الدار ولفّ أطناب الخيمتين قربُ الجوار إلاّ كمنْ ودّع الماء والخُضرة وتدرّع الشُّعْثة والغَبرة وواصل الغُربة وفارق الوطن وبعُد عن مغاني للعين وشَطنَ واستسقى الدَّلْوَ والشطنَ . فلما خلّف هذه الخُطط الصعبة وشارفَ من بين سائر الخِطط الكعبة قلت : والله هذا وصفٌ تتطلّع إليه الأحداق وتتحلّب عليه الأشداق قوله : .
وبُمهجتي يا عاذلي قَمرٌ ... قد شَفَّني في حبّه السَّقَمُ .
فإذا جرى طَلْقاً أضرّ به ... نَفَسُ الصبا فتشوَّش اللِّمَمُ .
وتطايرتْ أهدابُ مُذْهَبِه ... كَسدتْ عليها الطُّرْزُ والعَلَمُ .
وقوله في معنى لم يُسبَق إليه : .
عُلِّقتُها بيضاءَ طاويةَ الحَشا ... تَسْبي القلوبَ بحُسنها وبطيبها .
مثلَ الشَّقائق في احمرار خُدودها ... للناظرين وفي اسْودادِ قلوبها .
ومن أبكار معانيه قوله : .
ونائمٍ عن سَهَري قالَ لي ... وقد طَواني حُبًّه طَيّا : .
أأنتَ حيٌّ قلت : لا انتبهْ ... فالميتُ في النوم يُرى حَيّا .
ومن حكمته التي لا يَجْمح السامع في حكمته قوله : .
عوِّدْ لسانَك أنْ يلي ... ن على الخَطابة والخِطاب .
وتعهّدَ الفِكر الجدي ... دَ بصونه في كلِّ بابِ .
فتأكُّلُ السيفِ الصَّقي ... لِ بطولِ لبثٍ في القراب .
وقوله : .
لا تُنكرنْ حقَّ الأدي ... ب لأنْ تَعرّى من ثيابهْ .
فالسيفُ أهيبُ ما يكو ... ن إذا تجرّد من قِرابهْ .
وقوله : .
ما في زمانكَ ماجدٌ ... لَوْقَد تأمّلتَ الشَّواهِدْ .
فاشهدْ بصدقِ مَقالتي ... أو لا فكذِّبْني بواحِد .
وقوله أيضاً : .
تَختَّمْ في اليسار فلستَ تَلْقى ... طِرازَ الكُمِّ إلاّ في اليسار .
وما نَقضوا اليَمينَ به ولكنْ ... لباسُ الزَّين أولى بالصِّغار .
لذاكَ تَرى الأباهِمَ عاطلاتٍ ... وهُنَّ على الأكفِّ من الكبارِ .
وقوله : .
إنّي بُليتُ بحاجبٍ حَجبَ الوَرى ... بمِطالِهِ عن نَيلهِ المطلوبِ .
أبَتِ الملاحةُ أنْ تُفتِّحَ جَفْنَه ... إلاّ بقَدْر تبسُّم المكروبِ .
وأنشدني لنفسه من أبيات له قالها للشيخ أبي علي الحسن بن أحمد الخَوافيَّ يصف ترجُّحه للنكبة الواقعة برجله . ومن مدحَ رئيساً بالعرج فحدَّثْ عن فضله ولا حرج . ولم أسمع بمثله في فنّه :