هذا سُروري بأبي عامر ... مُغرِّقي في لُجّهِ الغامِرِ .
فتىً إذا جاراهُ في مَفْخَرٍ ... مُساجلٌ خاطَرَ بالخاطِرِ .
النثرُ جسمٌ وهْوَ روحٌ له ... والنَّظمُ عينٌ وهو كالناظر .
فممّا أنشدني لنفسه من شعره الذي يغدو ويروح ممتزجاً بالروح قوله في الغزل : .
نفسي الفداء لشادنٍ ... بَلْواه عِنْدي تُستحبّْ .
فإذا بَلوتُ خِلالَهُ ... فالماءُ يُشربُ وهْوَ عَذْبْ .
وإذا نَضوتُ ثيابه ... فاللوز يُقْشَرُ وهْو رَطْبُ .
وقُصارُ وَصْفيَ أنهُ ... فيما أحِبُّ كما أُحِبُّ .
قلت : هذا والله وصفٌ تتطلّع إليه الأحداق وتتحلّب عليه الأشداق وله أيضاً : .
صَبحتُ مَعهدَ أُنسي ... أرومُ تَرويحَ نَفْسي .
فحينَ وافيتُ قالوا : ... قد فارقَ الشيخُ أمسِ .
فأظلمَ اليومُ عِندي ... وكدتُ في الحال أُمْسي .
فيا مَسَرَّةَ قلبي ... ويا هِلالي وشَمسي .
أتستجيزُ فِراقي ... من دون تَزويد أُنسِ .
وأنتَ أنتَ ووُدِّي ... ما قدْ علمتَ وبَسّي .
الشيخ الرئيس .
أبو المحاسن سعد بن محمد بن منصور .
الإمام المختلف إليه والهُمامُ المُتَّفق عليه . لم تُخرج فتىً مثله الفَتَيان ولم ترَ العيون نظيرَه في الأعيان . واتّفق أنّي خيّمتُ في معسكر السلطان الشهيد طُغْرِلْ بك Bه بظاهر جرجان . وكنتُ يومئذ مُرشَّحاً لديوان الرسالة وموشَّحاً بجشمة الكتابة . والوزير رئيس الرؤساء الصاحب أبو عبد الله الحسن بن علي بن ميكائيل يَجذبُ بضَبْعَي من بين نُظَراتي ويَخُصّني بالرعاية والعناية من بين أكفائي .
ولعلّ الرئيس أبا المحاسن رحمة الله عليه كان سمع بخَبَري أو وقف على أثري فحَضَرَ ديوانَ الوزارة ودلّتْه الفِراسة عليَّ فقسم طرْفه بين طَرَفيّ وهو متردِّدُ الرأي بين الشكّ واليقين متشعِّبُ المذهب بين التحقيق والتخمين . فابتدأتُهُ بالسلام وقمتُ ماثلاً أمام ذلك الإمام وقلت : " أنا ذاكَ الذي ظننتَ وأنت في صدق الفِراسة أنت . فأقبلَ عليَّ وقبَّل بين عينَيْ " وقال : " مرحباً بقادم له عندنا محلّ الإخاء " فقلت : " قادمٌ ولكنْ بالخاء " . فتعجّب من حُضور جوابي وأُعجبَ بي وبآدابي وأثنى عليّ في ديوان الوزارة بما طرّزَ به كمُِّ جاهي وقَدْري شرح للرأي الصاحبي من أحوالي ما انشرح له قلبي وصَدري . وزُرته في مقرِّ عزِّه بجُرجان من الغد ورتَعْتُ عنده في ظلّ الرَّغَد . وتجاذبنا أهداب المذاكرة بياضَ نهارنا وشِطراً من سوادٍ ليلنا ؛ وجرى بيننا من الفوائد ما تخيّرتْه الغَواني لأوساط القلائد . ومدحته بعد ذلك بقصيدة دالية مطلعها : .
عجبتُ لطيفها أنّى تَصدّى ... وأومضَ بالتواصُل ثم صَدّا .
نصبتُ لصيده أشراكَ نَوْمي ... وصاحَ الانتباهُ به فَندّا .
هو الطاووسُ زِيّاً واخْتيالاً ... ولكنْ كالقَطا ليلاً تَهدّى .
فلمّا بلغتُ هذا البيت قال : " ما أحسن ما جمعتَ في المعنى بين هذين الطائرين ؛ قد طيّرتَهما على ألسنة الرُّواة سائرين " وتخلّصتُ إلى المدح فلمّا سمع قولي فيه : .
عَلا هِمَماً فليس يَهشُّ إلاّ ... إلى قُرصِ السماء إذا تغدّى .
هزَّ إليَّ مَلاثَ العِمامة وشهد لي في الصنعة بالإمامة . حتى انتهيتُ إلى قولي : .
مِنَ القوم الذينَ إذا استُمدّوا ... نَدىً فَضَحوا الخِضمَّ المُستمَدّا .
فَلا وَدُّوا ارأسِ العِزِّ شَجّاً ... ولا شَجّوا بدار الهُون وُدّا .
قال : هذا مقلوبٌ ترتاح إليه أسماعٌ وقلوبٌ . واتّفق أتي أنشدتُ هذه المِدحة في الجامع بجُرجان بعد الانتقال من المكتوبة وانقضاء المجلس المعقود للنظر ومن الحاضرين هناك الشيخُ أبو عامر أدام الله فضلَه وهو المعنيُّ بكلامي ؛ بمْشُط أصداغه ويخلُطُ أصباغه ويُعمّر بلسان التحسين نَواحيه ويخلَّقُ بأنشام التَّزيين أقاحيه