ارتبطه الصاحب نظام الملك حرس الله دولته لحُسن خطّه وفَوز قِدحه من الأدب ووفور قسطه . فلم تُنفِّسْهُ المُدّة ولا نفعتْه العُدّة حتى انتقل إلى جوار ربّه . ورأيتُ في الخزانة النظامية بنيسابور ديوان شعره بخطّ يده كان المِعْرَض أحسنَ من لابسه . وكانت آثار بَنانه مُغطِّيةً لعَورات بيانه . فممّا نَتَفتُه من قصائده قوله : .
دُمىً تركْنَ فُؤادي دائماً وَلِهاً ... لمّا تولّتْ بها أحداجُها عُصُبا .
بالله يا ناقُ هل تدرين من سكنتْ ... وراءَ حِدْجِكِ إذ عالوا به القَتَبا .
ومنها في المدح : .
لما وَردتُ أزال اللوح موردُه ... ونلتُ منهُ الذي قد كنتُ مُرتقِبا .
هَبّت عليَّ شَمالٌ من شمائلِهِ ... فأنشأتْ لي غماماً يُمطر الذَّهبا .
ورأيت في ديوان شعره هذه التجنيسات وما عليها طَلاوة ولا لها طَراوة ولا فيها حَلاوة : .
لَعَمرُكَ ما كَفي بقُفلٍ على الفتى ... ولا عابسٌ وجهي إذا الضيفُ لاقاني .
ولم تخْلِجِ الدنيا هَوايَ وحُسنُها ... بأخضر رفّافِ الحواشي ولاقانِ .
ولم يستطع أعوادَ عِزّي مُرتقٍ ... ولا شعَّثَ التشذيب نبْعي ولاقان .
وُجودي وإبقائي على قبّة العُلا ... هُما دونَ هذا الخلقَ أجمعَ لاقانِ .
وله : .
سَلَّى بنفسي عنِ الدنيا وبَهجتها ... أني أرى فانياً منه تَلافانِ .
والصبرُ أحمدُ ما أُوتيتَ من خُلْقٍ ... ما كنتُ في شِدّةٍ إلاّ تَلافاني .
وله : .
حَسبِيَ اللهُ في الأمور وكيلاً ... إنه في الخُطوب نِعمَ المعينُ .
ثِقَتي والرِّضى بما قد قَضاهُ ... روضةٌ طَلَّةٌ وماءٌ مَعين .
ومن أعيان شعره قوله : .
أقمتُ بأرضِ جِيلانٍ زماناً ... ولم يكُ ذاكَ منّي غيرَ جهلِ .
فلم أحصُلْ على خيرٍ مُتاحٍ ... سوى سحَّ الغُيوثِ وخَوضِ وَحْلِ .
أصادفُ كلّما لامسْتُ رَطْباً ... كأني منه في زمنِ الفِطَحْل .
وله أيضاً : .
أهاجتْكَ وُرقٌ رُحْنَ في الأيكِ وُقَّعا ... يَنُحنَ وما يُذْرين للشَّجْو أدمُعا .
فذكّرْنَنا العهدَ القديمَ وهجُنَنا ... وطَرَّيْنَ قلباً كانَ بالغِيِّ موزعا .
عَلتْ فَنَناً يَهتزُّ تَنْدبُ إلْفَها ... فأبكتْ وما تَدْري الحَزينَ المُفجَّعا .
تُذكّر أياماً مضتْ وليالياً ... وشرخَ شَبابٍ بانَ منهُ فودَّعا .
وله يهجو بوّاباً لبعض الكبار : .
صارَ ذا البوّابُ مِحنَهْ ... ما نِعي من غيرِ إحْنَهْ .
كلّما جئتُ كأنّي ... عنده صاحبُ ظِنَّهْ .
صُمَّ عن قَولي فلم يأ ... ذَنْ أصمَّ اللهُ أُذْنَه .
وله أيضاً : .
أَقْعدني عنك عارضٌ عَرَضاً ... طَوَّقَني في مَبيتي المَضَضا .
ما قرَّ جَنْبي على الفراشِ لهُ ... كأنَّ حَشْوَ الفِراشِ جَمرُ غَضا .
وشرُّ حالٍ لمَنْ تؤمِّلُهُ ... حالُ غَريبٍ يُكابدُ المرضا .
وله أيضاً : .
حاشا لعهدكَ أنْ يكون ذَميماً ... ولمن أحبَّك أنْ يكون مُليما .
إني أرى سَفَهاً تسرُّع عاذِلي ... وأرى الهوى خَطْباً عليَّ ذَميما .
وأنشدني الشيخ أبو عامر الجُرجاني له من قصيدة أولها : .
سقى خَدِّي دُموعي يومَ ساروا ... بماءٍ في الضُّلوع له شَرارُ .
رأيْنا الجودَ من كفَّيك عَيفاً ... وعند سِواك شاهدُهُ ضِمارُ .
وشِمْنا من يديْكَ سَماءَ نَيلٍ ... لبارقها على الأُفُقِ استِعار .
تَرودُ حَدائقاً كالليل غُلْباً ... تُنيلُ وما لواعدِها إبار .
أسَمنا سَرحَنا فيهنَّ هَزلى ... فجاءتْ وهْيَ مُطَّعَمةٌ شِيار .
نَزَعْنا عُذْرَها ضُرّاً فجاءتْ ... عَواصي ليس يَضبطُها عِذار .
محمد بن بحر بن حَمْدٍ الخِيري