قلت : هذا كلام في القلة دون القلة وإنما أثبت لقدر الممدوح لا المادح . ولمثل ذلك القدر جر الرماح على السَّماك الرامح .
كامل المُنتفقيُّ .
لما وطئت البصرة في جملة عميد الحضرة أبي سعد حمزة بن منصور أدام الله أيامه ماجت إلينا البادية وانثالت وفودها على تلك الرِّياع كما تنثالُ أعراف الضِّباع . فوجَّهَ بعضهم سُفراءَ إلى الخفراء يستودعبم الشُّعث الغبر من الحُجاج السالكين لذلك المنهاج المترادفين فريقاً بعد فريق الآتين من كل فج عميق . وارتبط البعض في غمار المرتزقةِ من الجنود أو المرتفعة من الوفود فبينا أنا يوماً بين يديه إذا دخل هذا المنتفقي عليه وشكا إليه سنة أرست عليه الكلاكل وأثكلتهُ الكُوم البوازل وأركبت إليه النوازل . ثم وصف له الأمل الذي ركب إليه مطاه والسَّهر في السفر الذي نغص بسراه النوم على قطاهُ . فأوسعه تأهيلاً وترحيباً وأوطأهُ من ذراه كنفاً رحيباً . فكان من جملة مفاوضات عميد الحضرة إيّاه أن قال له : قد عم علينا هذا الهراءُ الذي اصطلينا منه ناراً حامية لم تبق للعيس منسماً ولا للخيل حاميةَ فهل لكم في آن نطنِّبَ الخيامَ بجواركم ونقرط الآذان بحواركم ونواردكم على نطف الأداوى ونرنِّحَ معكم على أغاريد حفيف الرياح نشاوى . . فقال : كرامةً لمولانا . ولو استطعنا لنثرنا عليه الأرواح على مرادك وفرشنا الخدود تحت نعال جيادك ولي في خدمة أمثالك من الكُبراء عادة ولك عندي على الحُسنى زيادة فقال عميدُ الحضرة : وما هي قال شقيقة لي كأنها فلقة قمرٍ أجيبك إليها لتبني عليها فصدقت رغبتهُ والتهبت شهوته وركب من الغد إلى حلِّتَه بعسفان وهي رملةٌ ميثاءُ خالية الجنبات بزرابيَّ مبثوثةٍ من النّباتِ وتتنَّفس أبرادها عن نسيم يطير بجناح الهوى ويُجاذب بحسن المس أهداب الرّداء . فإذا فيه من بين سائر قباب الحيِّ تُنسبُ أرآنا في قصدها إلى الغيِّ وتشهدُ أنا قد تركنا الرأي بالريِّ لما نسجتها من دبور الأدبار وركبتها من غواشي الغُبار وما بها إلا كلابٌ تلغ في أسار القِعاب أو تتمضمضُ من الطُّرّاق بالعراقيب والكعاب وما من قعبٍ إلا وهو أشدُّ عيمة منا إلى الألبان وما من جفنةٍ إلا ولها جراحة على اللَّبان فحاجتها إلى الزّائب كحاجتنا إلى الرائب . وفي أحد جوانب البيت عجوز في الغابرين تقدي بطلعتها الشوهاء عيون الحاضرين قد تركها الانحناء محطوطة المناكب وكأن بنواصيها غزول العناكب فأنشدت عميد الحضرة مُاعباً : .
يا ليتني حين خرجت خاطبا .
لَقّانِيَ الله طريقاً شاطبا .
لا أَمَماً منِّي ولا مُقاربا .
حتى إذا ما سرتُ شهراً دائبا .
ضَلَّ بَعيري ورَجَعتُ خائِبا .
ثم قلت له : أبصر فلقة القمر التي وعدتها فبهت أولاً حتى كلت نوافده واستغرب ثانياً حتى استهلت نواجذه وحلف عليه كامل لينزلنَّ فأبي وجاءه من ناحبة الذُّلِّ فنبا واعتلَّ عليه بمعاذير رخصت له في سرعة الانصراف وحببت إليه الرضا من الغنمة بالإباب . ولكامل هذا شعر بدوي وصيت له بين الشُّعراء دوي . فما علق بحفظي من مترنماته قوله من قصيدةٍ أولها : .
إنسانَةُ الحَيِّ أم أُدمانةُ السُّمرِِ ... بالنَّهي رقَّصَها لحَنٌ من الوَتَرِ .
يا ما أمَيلحَ غِزلاناً شَدَنَّ لنا ... من هؤَليّائِكُنَّ الضالِ والسَّمُر .
بالله يا ظَبَيات القاع قُلن لنا : ... ليلايَ مِنكنَّ أم ليلى من البشر .
قلت : الإبهام في الشَّعرِ صنعة لا يتوصل إليها الحضريون إلا بتعريق جبين الخاطر وبعثرة دفين الضَّمائر . وقد أخذ هذا البدويُّ من عفوِ خاطرهِ نوعاً من الإيهام تنبو عنه صوارم الأفهام وذلك قوله : .
بالنَّهيِ رقَّصَها لحنٌ من الوتر .
فإن لحن الوتر الذي يضربه اللاهي للإنس مرقص ولحن الوتر الذي ينزعه الرامي للوحش مقمِّص . وما أشبهَ ذلك التَّرقيصَ بهذا التقميص ! .
الواثلِيُّ