قلت : ولَعَمري إنه لم يقصِّر في هذا المعنى قلماً ولساناً حيث وضع بإزاره إساءته إلى السؤال إحساناً يُعفِّي على ذنبه وجعل بحذاء الجُرم عذراً يُسوِّغ الاحتمال في جنبه . وجرت بيني وبين الشيخ أبي عامرٍ الجُرجاني مناشدة لِما قيل في أوصاف المَساويك ومذاكرة فيما انْشعبت إليه الخواطرُ في اختلاف معانيها . فأنشدني لبعضهم ثم قال وأظنّه لبشار بن برد : .
ماذا عليكِ دُفنتُ قبلكِ في الثرى ... من أنْ أكون خليفةَ المِسواكِ .
أيجوز ويحكِ أنْ يكونَ متيَّمٌ ... في القَدر عندكِ دون عودِ أراك .
واستملحتُ تمنّيه خلافةَ المِسواك عَيمةً منه إلى ارتفاع ريقه وظمأً إلى ارتشاف درّه المغروس في عقيقه . وأنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني أبو الجوائز لنفسه : .
واعتنقْنا ضَمّاً يذوبُ حصى اليا ... قوت منهُ وتَطْمئنُّ النُّهودُ .
ثم هبّت رُويحةُ الفجر والكا ... شحُ ناءٍ والعاذلاتُ رُقود .
كلّما نمَّ للفُضول سوارٌ ... كذّبتْه قَلائدٌ وعقود .
قلن : وكنت أسمع قول ابن هِندو : .
تعانقْنا لتوديعٍ عَشِيّاً ... وقد شَرِقتْ بأدمُعها الحِداقُ .
فما زال العناقُ يضيقُ حتى ... تَشكَكْنا ؛ عِناقٌ أو خناق .
فأعجب به وأتعجَّب منه مع استبشاع لفظة الخناق عند ذكر العناق تطيُّراً منه حتى جاء أبو الجوائز في صفَة الضَّمِّ بالأكمل الأتمِّ وهو قوله : وتطمئنّ النهود . فإنّ جميع ما قيل قبله على التقصير عنهما شُهود .
وقد اتّفقَ لي في معناه ما لا أحسبُني سُبقتُ إليه من قصدية وهو : .
واتفاقٍ حَسَنٍ ألْ ... لَفَ شَملاً قد تَبَدّدْ .
واعتناقٍ ضيِّقٍ يُو ... هِمُكَ المزوجُ مُفرد .
وأما قوله : يذوب حصى الياقوت فيه فمعنىً حسن لا يكاد يتأخّر عنه قول ابن هِنْدو : .
ولَمّا أنْ تعانقْنا سَحَقْنا ... عقودَ الدُّرِّ من ضيقِ العِناقِ .
فالأول ذَوبٌ تتذاوب فيه الأماني والثاني سحقٌ تتساحقُ عليه الغَواني . وله أيضاً C : .
أحببتُها حَبَشيّةً بجَبينها ... شَرطٌ يُضاعف شرط كلّ مُتيَّمِ .
تقضي فينقاد القُضاةُ لحُكمها ... طَوعاً وتفتكُ بالكَمِيِّ المقْدَمِ .
ومنَ الدليل على الشجاعة للفتى ... أثرُ الجراحِ بوجهه والمقْدَم .
وأنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني له : .
أمِنْ تِبريزَ شارفَني خَيالٌ ... وأصحابي بكاطمةٍ هُجودُ .
ضعيف المتْنِ لا يثنيه واشٍ ... يراصده ولا يعْييه بيد .
بَعثتُ إليه خالصتي فدقَّتْ ... به منها مضبَّرةٌ وخُودُ .
تَراماهُ الأماعِزُ والفَيافي ... وتلفظُهُ التَّهائمُ والنُّجودُ .
ويَنهى البيضَ أنْ يسلبنَ قَرْني ... ذوائبُ تستثيرُ الوجْدَ سودُ .
تنظَّرُ زَورتي خَود لَعوبٌ ... وتحذَرُ نَفْرتي هيفاءُ رُودُ .
وكم سمحتْ صَدوفُ ولا رقيبٌ ... يُحرِّمُ ضمَّها إلاّ النُّهودُ .
قلت : ما زالت الشعراء يعدّون نفحَ الطيب من الوُشاة وجرسَ الحَلْي من الرُّقباء فنهدَ أبو الجوائز إلى النُّهود وعدَّهُ من المحذور وزاد به نغمةً في الطنبور . وفي هذه القصيدة يقول : .
وأُطلقُ في رحاب المجدِ عَزْماً ... له من صُنع أخلاقي قيودُ .
إذا ما أُخلقتْ أبرادُ حالي ... فبُرْدُ الصبرِ يا بأبي جَديدُ .
فويْلُمِّ المَكارم من زمانٍ ... لئيمٍ وعْدَه فينا وَعيد .
تَفانتْ أنفُسُ الأحياء حتى ... غَدَوا ولُحومُهُمْ لهمُ لُحود .
وأبطالٌ إذا شَرعوا العَوالي ... فليس وُرودَها إلاّ الوريد .
هُم البيضُ القَواطعُ حين يُمْسي ... لهمْ من نسجِ خَيلهمُ عَمودُ .
بَنو حربٍ لهم عَلَقُ الأعادي ... رضاعٌ والسُّروجُ لهمْ مُهودُ .
ولم يبرحْ على الصَّهَوات منهُمْ ... قيامٌ بالعُلا وهُمُ قُعود .
وأنشدني أيضاً له :