وقد وزر للأمير يبغو الحسن بن موسى والجاه عريض وناظر الدهر عنه غضيض . وتولاها سنين متمماً به زينها مقوماً زيفها مضموماً نشرها ملموماً شعثها . وشبابه بعد طري لم ينقشع غمامه والشعر مسكي لم يخلس ثغامه وما أكثر ما أتلهف على ما فاتني من جمال أيامه فأستقيم وأنحني وأذكر أيام الحمى ثم أنثني . وقد كان ارتبط لمنادمته نفراً من الفضلاء لو بعثرت خراسان لم تجد لواحد منهم نظيراً . وما زال في ربيع زمانه غض الفضل نضيراً حتى انتبه له الدهر الوسنان وتعاون في إراقة دمه السيف والسنان . واتفق أني كنت معه في قرية سداسير يوم تمحص ذنبه واضطجع جنبه وذلك في رجب سنة خمس وثلاثين وأربعمائة فرأيت هنالك أفواهاً إلى التقامه غراثاً وشاهدت ما لو احتملت به لحسبته أضغاثاً . فمما أنشدني لنفسه من شعره قوله في محنته : .
قالت سليمى وقد قيدت باكية ... أراك في القيد تمشي كيف أغتبط .
فقلت : لا تحزني مما ابتليت به ... فالقيد والحبس للأحرار مشترط .
العجل يطلق في المرعى ليأكله ... والطرف يلجم أحياناً ويرتبط .
وتحبس الخمر حولاً قبل مشربها ... ويغمد السيف حيناً ثم يخترط .
وعقد له مجلس أنس في دار غيره وفي المجلس ثقيل يتزود كبد النعيم فمنعه من إحضار معشوقته على الرسم القديم . وتلطف هو في الكناية عن إماطته بقوله : .
مجلسنا طاب كما يشتهي ... حضوره الزاهد والزاهده .
فلو نقصتم منكم واحداً ... لزدت في مجلسكم واحده .
وأنشدني أيضاً لنفسه في معنى لم يسبق إليه : .
من عاذري من عاذل قال لي ... ويحك كم تعشق يا مغرم .
وآلم القلب ولا غرو إذ ... كل ملوم قلبه مولم .
وصنعة البيت الثاني أن الملوم مؤلم القلب بما يعانيه . فإذا قلبت صورته كان قلبه أيضاً مؤلماً يعني مقلوبه . ونعم ما أخرج اللفظ ذا وجهين يمكن حمل المعنى عليه من نوعين . وأنشدني أيضاً لنفسه في دنان خمر مسخت خلاً : .
أخيل للأحباب لما غدت ... أحبابنا ممسوخة خلا .
مجالس اللهو وشرب الطلا ... عز على اللهو إذا اختلا .
وكسرت بعض العجائز بين يديه جوزة بثغر مثقل فقال مرتجلاً : .
وعجوز لها ثغور شتات ... وهي قبر فيه عظام رفات .
وبأسنانها الشتات البوالي ... تكسر الجوز أي بأني فتاة .
وأتي يوماً بغصن من الصفصاف فقال فيه مرتجلاً : .
وخلاف أصوله ... صغن من جرم بسد .
ركبت في فروعها ... قطع من زمرد .
الشيخ أبو الحسن يوسف بن صاعد العقيلي رئيس قدره نفيس يتحلى بشرف الأصل كما يتحلى بالفرند متن النصل ويجمع بين أدبي النفس والدرس وطهارتي النشئ والغرس . وبارع في الآداب الملوكية إذا ركب إلى الصيد لم ينج الوحوش من صيده . وإذا امتطى الباز دستبانه انتفض شرفاً بيده . وإذا لعب بالشطرنج لم يخل لعبه من قطعة من الخشبات مغصوبةً ولم يأل في اختراع شهمات أو ابتداع منصوبة . ثم إذا تخلص منه إلى النرد قدر في دقائقه تقدير داود في السرد حتى كأن الكعاب تتصرف على طاعته وتضع نفوسها بحسب إرادته . وإذا حاضر بالأدب فلا يشتغل إلا بالتقاط الدر من ألفاظه الغر . ومن لطائف ما شاهدت من ذكاء خاطره أني كنت عنده بجوذقان أطالع كل صبحة من غرته قمراً زاهر اللألاء وأهز إلي من نخلته شجراً يجني أزاهر اللآلاء . فلما طال مكثي لديه وطول مقام المرء في الحي مخلق لديباجتيه استأذنته في الانصراف واليوم يوم الأحد . فتمثل بقول القائل : .
وفي الأحد البناء لأن فيه ... تبدى الله في خلق السماء .
فقلت : وأي مناسبة بين استئذاني للصدر عن هذا الغناء وبين يوم الأحد وذكر البناء فقال : نبني على كسرى سماء المدام يشير إلى قول أبي نواس : .
بنينا على كسرى سماء مدامة ... مكللة حافاتها بنجوم .
فتعجبت من جمعه بين معنيين متنافرين بهذا الاستنباط اللطيف واحتياله في ارتباطي ذلك اليوم بالعذر الظريف . ومما جاد به طبعه وجاش به بحره قوله وكتب به إلى والدي رحمهما الله ثم اتفق له إيصاله إليه من يده : .
إن كنت أسكن جوذقان ومنشأي ... تلك البقاع وكلها جنات