فقد حبس بغزنة مدة مديدة يعذب ويعنى والقيود على رجليه تترنم وتتغنى . ولم ينج برأسه إلا لتوبته عن حوبته ورجوعه عن سوء عقيدته . وقد كان حافظاً لكتاب الله العزيز ومستوثقاً من ذلك الحصن الحريز حاذقاً في القراءات عالماً بالروايات يسردها وراء ظهره ويكاثر بها أبناء دهره . ولحق في أيام وزارة أخيه فنصره وآواه وأكرم بحضرته مثواه . غير أنه لم يتلبس بالأعمال السلطانية وتصرف فيها على الأوقاف في تلك الولايات يكتسي من أسلابها ويحتسي من أحلابها حتى وقعت الحادثة بأخيه وبقي هو على حالته الأولى مشدوداً أواخيه والغالب على ظني أنه لقي إلى هذه الغاية يومه فقد طالما عفت آثاره وانطوت أخباره . فمما بلغني من شعره ما أنشدني له الفقيه أبو الحسن البحاثي قال : صدر أبو الحسن السعيدي إلي كتابه من بوشنج قبل نكبته بهذه الأبيات : .
ما أقاسيه من طويل الليالي ... من فنون المنى ومسرى الخيال .
لو على الراسيات عشر عشير ... من هموم لآذنت بالزوال .
ومنها : .
لك خد كأنه جلنار ... وثغور كأنهن لآل .
إن عينيك ترميان بسهم ... مؤلم موجع قلوب الرجال .
ومنها : .
طاهر طهر الإله ذراه ... فهو ينجي من الهموم الثقال .
موئل المعتفين يوم النوال ... معقل الخائفين يوم النزال .
ذو كلام كأنه سلك در ... ظهرت فيه قدرة المتعال .
سيفه كلما نضاه قراب ... يتمنى جماجم الأبطال .
أبو المظفر ناصر بن محمد بن غانم .
شريف الأصل كالمشرفي من النصل . نبا به وطنه فاجتوى المقام وقوض الخيام . وتقاذفت به ديار الغربة حتى كأنه وحش مطرود أو خبر شرود ومحا البعد آثاره وطوى النأي أخباره . ولا أدري أي الحراد عاره . وقد عثرت بديوان شعره في الخزانة النظامية والتقطت منه أبياتاً أحيي بها مواته وأنشر رفاته . وإن لم يكن في حداثة العصر من شرط الكتاب ولكن العواطف رققت كبدي لما كان من فضلاء بلدي . فمنها قوله : .
لا تغرنك الحياة غروراً ... فإلى الموت كل خلق يصير .
وأعبد الله حسبةً واجتهاداً ... فهو نعم المولى ونعم النصير .
الشيخ أبو علي الحسن .
بن أبي الطيب والدي .
قد قيل : إن الرجل بابنه وبشعره مفتون أما أنا فمفتون بكلام والدي رحمة الله عليه فقد كان كما قال فيه الشيخ أبو منصور الثعالبي نظماً : .
يا من تجمعت المحاسن كلها ... فيه وصيرت القلوب برسمه .
فالوجه منه كخلقه والخلق منه كشعره والشعر منه كاسمه .
لا زال جدك مثل ما تكنى به ... وسلمت من سيف الزمان وسهمه .
وأثنى عليه في كتابه " تتمة اليتيمة " نثراً فقال : الوجه جميل تصونه نعمة صالحة والخلق عظيم تزينه آداب راجحة . قلت : وإنما مدحه بذلك لأنه قد كان من أبناء الهمم وأغذياء النعم ولم يكن ممن يكتسب بالصناعة أو يتجر في هذه البضاعة . وأشعاره على الأغلب مقطعات تشتمل على أغراضه السانحة له وقلما يعثر فيها بمديح . اللهم إلا في الفلتة والسقطة والندرة والغلطة . وكان إذا قصد بعض الكبار يودع كمه علقين يصرفهما إلى وجه الخدمة أو خدمة الوجه أحدهما كيس ملؤه أوراق أو عيون والثاني جزء كل أوراقه عيون . وفيها خدمتان إحداهما منظومة من الأشعار والأخرى منثورة من الدرهم والدينار كالحلة خلعت على اللابس بطرازها والعروس زفت إلى الخاطب بجهازها . فمما أزين به كتابي من نثره فصل له إلى بعض السادة يعاتبه على ما أقدم عليه حاجبه : " الشيخ وإن طال دوني حجابه وقصر عني إيجابه فلست من فضله الجزيل آيساً ولا عن صبري الجميل يائساً . فالكريم مرتجى وإن يلف بابه مرتجا . والنفس موقنة بأن ستسر بهلال طلعته وإن استسر فالسماء إذا احتجبت أرجاؤها وجب ارتجاؤها . وسألازم حاجبه حتى يقضي من أمري واجبه وأرتضي سدة بابه مقاماً حتى تنقضي عني مدة حجابه تماماً ولا أفارق حضرته حتى يفارق الآس خضرته . إن شاء فلينجز الوعد وإن أحب فليحجز العد والسلام "