وختم الكتاب بهذا الفضل : " ولما أسعدني الله بالوقوع إلى حضرته وقبلت قبلة الآمال من عتبته وشرفت بالأذن عليه في خلوته ساءلني عن أخباري وأخبار غيبتي ثم أكرهني على نقص توبتي وأمرني بالاختلاف إلى الديوان على رسمي وأثبت العشرينية باسمي فأنا بحمد الله أرفل في أثواب المسرة وأرد على أبواب المبرة وأرجع من ظل خدمته إلى ما ينسيني ذكر الأهل والوطن ويشغلني عن حب الولد والسكن " .
ومن ذا الذي لم يرمه الدهر بالنوى ... ومن ذا الذي لم يشجه بفراق .
رويدك إن الدهر لا عزم عنده ... سيرمي النوى يوماً بوشك تلاق .
قلت : وكان سبب انقطاعه من الناحية أن الشيخ أبا الطيب الخداشي لم يزل يرهقه صعوداً فأنف من الصبر على الخسف والانقياد للذل . وامتد إلى بخارا مفوقاً بسهام الهجاء إليه ومستعدياً للسطان عليه . فمما قاله في هذا المعنى بيتان أنشدنيهما له القاضي أبو جعفر البحاثي وهما : .
أبا طيب لا تكن ظالماً ... ولا تلق نفسك في المهلك .
كأنك هارون في غدره ... وأني بقايا بني برمك .
ابنه .
أبو نصر الكاتب .
ما عسى أن أقول في غض تفرع من تلك الأرومة وفسيلة تشعبت من تلك الجرثومة وقد عاشرته فوجدته لا يرجع من الأدب إلى رأس مال إلا أن له طبعاً نقاداً وخاطراً وقاداً . ومن خبره أنه لقي الوزير شمس الكفاة أحمد بن الحسن الميندي مستعدياً به على أبي سعيد الخداشي ومدحه بهذه القصيدة التي أملاها علي من لفظه وهي : .
يقول ويجري كالجمان المبدد ... دموعاً على خد أسيل مورد .
أترحل عني في الربيع أما ترى ... تعممت الدنيا بنبت مجعد .
وقد شق عن نبت الرياض شقائقاً ... كسابغة شقت بنصل مجرد .
وعلق من فرع الغصون جواهراً ... ورصع ديباجاً بدر منضد .
وما إن يريم الريم من فرش حلة ... متى يغشه نوم بها يتوسد .
ألست ترى وسط الحدائق نرجساً ... له حدقات من لجين وعسجد .
كأن من العقيان قد صيغ إثمد ... وقد كحل الكافور عمداً بأثمد .
تيقظ عن نوم وما تم نومه ... فيرنو بعين مثل عين المسهد .
فسبحان من أبدى وأبدع زهرةً ... من الدر والعقيان فوق زمرد .
ونفحتها راح وروح فنشرها ... دليل على صنع الإله الموحد .
ونور الأقاحي قد تبسم ضاحكاً ... كبدر حواشيه تزان بفرقد .
يطير الصبا بالورد من كل جانب ... فكم متهم مما يطير ومنجد .
فبعض كخد بالحياء مضرج ... وبعض كخد العاشق الصب مجسد .
ترى خطباء الطير يدعون في الدجى ... أناساً بهم وجد إلى اللهو والدد .
وينشدن بالإنشاد إلفاً فقدنه ... فيا عجباً من ناشد الإلف منشد .
ومنها : .
وما أنس إذ ودعتها يوم أقبلت ... كبلقيس حيرى وسط صرح ممرد .
وأدمعها تحكي دموعي وأدمعي ... دموع لبيد عند فقدان أربد .
وما أنس مِ الأشياء لا أنس قولها ... فيا حسرتا يومي ويا حسرتا غدي .
ألست الذي قد قلت في أول الصبا ... متى تبعدي عني مدى الدهر أبعد .
لأية حال حالت الحال بيننا ... وأنت بأي العذر تغدو وتغتدي .
فقلت لها ما اخترت والله فرقة ... على طيب عيش بالوصال مرغد .
أدلت بكرهي وصلنا بافتراقنا ... فلا تعذليني واعذلي الدهر وارددي .
فردت جوابي كيف أعذل دهرنا ... وقد شرفته دولة الصاحب الندي .
فلما فرغ من الإنشاد قال له الوزير : أمستميح أنت أم مستنجح فقال : كلاهما وتمرا . فقضى حاجته وأجزل صلته وأشكى مظلمته . وأنشدني لنفسه في هجاء المشطبي المستوفي : .
شطب بطيخك وقت الصبا ... طوعاً كما أخبرت تشطيبا .
لما فشا ذكرك بين الورى ... بذاك قد لقبت تلقيبا .
وأنشدني لنفسه أيضاً يهجو عامل باخرز : .
عامل باخرز أخو همةً ... ورتبة سامية عاليه