ومن أين لا أبكي وروحي مفارقي ... ومالي سوى حوض المنية مشرع .
وما أنس مِ الأشياء لا أنس قولها ... وفي صحن خديها وخدي أدمع .
تعانقني طوراً وتمسح عبرتي ... وتلثم خدي تارة وتودع .
عزمت على هجري فأصبحت راحلاً ... رجوعك يا سؤلي متى أتوقع .
فقلت لها : لا تسألي لست عارفاً ... بما في غد أو بعده الله يصنع .
ولا تكثري لومي بأني صابر ... وأن لست من خوف النوى أتضرع .
فإن نحولي واصفراري وحيرتي ... دليل على أني لفقدك أجزع .
تحملت ثقل الحب في الصدر مخفياً ... وإن كان قلبي في الهوى يتقطع .
ومنها : .
أرى العيش بعد الإلف موتاً ومن يغب ... عن الإلف لا يسلم إلى يوم يرجع .
فيا ليتني لم ألق يوماً فراقها ... وفي غده ما كانت الشمس تطلع .
وإني لأرجو أن ربي يردها ... علي ويدني الدار والشمل يجمع .
قلت : وهذا لعمري كلام حلو المساغ حسن المساق يدل بكثرة طائلة على فضل قائله .
أبو منصور الكاتب .
هو من أشعر الكتاب وأكتب الشعراء . وقد لفظته باخرز إلى دار الملك ببخارا وارتبط في ديوان الرسالة بها . وهذا نثر له موشح بنظم يصف فيه حاله ويذكر حله وارتحاله . وكفاك به مخبراً عن قصته وناطقاً بحذقه في صنعته . صدر الرسالة قوله : .
كتبت ولي نفس تذلل للهوى ... فأنفاسها حرى وأجفانها عبرى .
تحيرت من أمر الهوى فتسلطت ... علي النوى واستمطرت أدمعي تترى .
وكيف لا وقد تبدلت بمظنون الأحبة والأوطان شجون الامتحان في دار الغربة أبكي شجناً لأوطاني وأرثي حزناً لخلاني . نهاري ليل أسود وقد وكل بالفكر وليلي نهار أربد مقصور على السهر . أرخي أيامي بين تعلل بالأماني وتجمل في تحمل ما أعاني . أتمنى سوالف الأيام والأماني مضلة الأفهام . فإذا يئست من عتبى دهري أنست ببكائي ومهما نكست من لوعات صدري تنفست ببرحائي . ومتى تجسمت لي روائع ربوعي انسجمت متتابعة دموعي وتعضني للنوى أنياب عاضة وترضني من الهوى أسباب راضة : .
أضحي وأمسي في فنون بلابل ... من دونها تتقطع الأكباد .
ولا غرو فقد تبدلت بالأنس وحشة وبالمتنزهات مساكن وحشة .
في ضيق الأرجاء ضنك المخترق ... كأنني في مطبق أو مختنق .
فنزلت وجار الضباب واجماً واحتللت أوكار الغراب نادماً . لا أتنسم بها نسيماً ولا أتوسم فيها حميماً : .
نزلت بخارا وهي لولا قطينها ... لحق علينا أن نلقبها البحرا .
إذا هم حر في بخارا لحاجة ... ففي كوز ماء أو إناء له يخرى .
متنزهاتها سهكة تتداول في أرجائها العذرة ومخترقاتها مزالق تتابع في حافاتها العثرة : .
مؤونة الغسل بها جمة ... وأعظم الرزء كرا المحفشه .
لا قدست من بلدة إنها ... مزبلة ضيقة موحشه .
وهذه حالتي بعد متنزهاتي الطيبة الرائعة ومساكني المؤنقة الفائقة . وبعدها ساعدني الزمان في منادمة الأخوان ومقارنة الخلان : .
والدهر عنا نائم لم ندر ما ... صرف الزمان وفرقة الإخوان .
فتنبهت أحداقه فتركننا ... أيدي سبا شتى بكل مكان .
تناغيني بواعث الأسف وتناجيني طوارق التلف . يا عجبي ! .
أشتاق إلى الجفاة وأحن إلى السعاة : .
أرض يسود بها القرود أسودها ... فيطيعهن من الشقاء أسود .
كبيرها متورط بالجهالة وصغيرها متمخط في الضلالة . أفضلهم عيي وأغفلهم غبي وأعفهم سارق وأسدهم مارق . وما خير موطن تصيدك فيه حبائل الحقود ولا تأمن به غوائل الحسود . أتذكر باخرز ونحن إلى أقطارها أم تشتاقها وتبحث عن أخبارها أمالك نفس متعظ وحدس متيقظ