ما حل أرضاً وهي تشكو جدبها ... إلا ترحل وهي أخصب من إرم .
وسما بخالص ما صفا من سره ... حيث انتهى مختار أسرار الأمم .
كالبدر بل كالشمس بل كلتيهما ... كالليث بل كالغيث هطال الديم .
لما سمع هذه الأبيات أبو الهيجاء علي بن أحمد الخوافي قال فيه : .
جميع من لهم نظم من الكلم ... أشعارهم دون شعر الحاكم الحكم .
قصيدة صاغها حذاء معجزة ... لكن صياغتها من جوهر الكلم .
رأيتها عذبة الألفاظ سائرة ... كأنها خلقت من صفوة الحكم .
ما أنشأت مثلها الأوهام مذ نشأت ... ولا جرى مثلها من مرعف القلم .
سقياً لقائله سقياً لمنشدها ... سقياً لسامعها في العرب والعجم .
الشيخ أبو نصر أحمد بن ينفع .
هو في المنصب خوافي وفي المنسب قشيري . ولست أروي وصفاً أجمع لفضائله وفضائل قبائله من قول الأديب أبي بكر اليوسفي فيهم : .
سقى آل ينفع صوب الحيا ... فهم في حساب العلا الحاصل .
هم الزائدون هم الفاضلون ... وغيرهم الزائد الفاضل .
لساني عن حالهم سائل ... ودمعي على غثرهم سائل .
إذا كنت في ظلهم قائلاً ... فإني بفضلهم قائل .
ثم الشيخ أبو نصر من بينهم رأس الرؤساء ووارث العزة القعساء وصاحب البيان الذي ينسي القرم جراجره والليث زماجره . ويتضاءل سحبان ويتضعضع لفصاحة بين لحييه فيتقعقع . ثم له من الترسل الحظ الأولى وقدحه فيه القدح المعلى . وكتب مدة في ديوان الرسالة للشيخ أبي نصر أحمد بن أحمد بن عبد الصمد الوزير والجاه بمائة والمال بنمائه والأمر نافد والقلب بأطراف الأماني آخذ . فلما حانت أيام الفترة وأصبت سماء الفتنة اجتمع إليه نفر من الغاغة واستولوا على النواحي المجاورة لناحيته بشن الغارة . ونظروا إلى العواقب بعين الحقارة ولم ينصفوا في مراعاة القارة حتى طلعت الرايات الطغرلية فانقضوا من حوله لخوف السلطان وهوله " كمثل الشيطان إذا قال للإنسان : اكفر فلما كفر قال : إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين " . ولولا سوء القضاء المضيق عليه لرحب الفضاء لأكب على العلم وهو فيه من الأعلام ولم يتعاط السيوف بدلاً من الأقلام غير أنه اغتر ببأسه الشديد وانتقل من القصب إلى الحديد . فأخذه السلطان أخذ عزيز مقتدر وأورده الأجل حتفه شرب محتضر . فصلب ذلك الكبير بالمربع الصغير على بعض الخشاب . وأنشد : علو في الحياة وفي الممات ورثاه الشيخ والدي C بقصيدة أولها : .
لأبي نصر بن ينفع حزن ... في فؤادي تضيق عنه الضلوع .
جذع هالنا على الجذع منه ... منظر رائع وقلب مروع .
طاله الجذع فاستطال ولولا ... جهلها لم تطل كذاك الجذوع .
فمما بلغني من شعره ما أنشدنيه الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني لنفسه مرثية ابنه أبي الحسن بن ينفع رحمهما الله : .
شف المكارم والعلا تعطيل ... إذ قيل ينفع ذو الندى مقتول .
سمح القضاء به فقلت مصدقاً ... إن الزمان بمثله لبخيل .
تبكي عليه بدمعها عين العلا ... والمجد مشقوق الصدار عليل .
لو كان مثلك من أصابك سيداً ... نفع العزاء ونفس التعليل .
قال : وأنشدني لنفسه وقد كتب منها إلى بعض أصدقائه من الحبس : .
دعوت فلاناً راجياً فكأنما ... دعوت به غيثاً من الجود هاميا .
وأوردني شرباً من الفضل صافياً ... وألبسته ثوباً من الحمد ضافيا .
على أن ذا يفنى ويبقى ثناؤنا ... وخير جزاء المرء ما كان باقيا .
قال : وأنشدني لنفسه أيضاً وكتب بها إلى شمس الكفاة ساعة وروده الحضرة : .
وشاعر جاء شعره ذهب ... ينثر من لفظه ومن كيسه .
له نثاران يبتغي بهما ... في عدله موضعاً لتعريسه .
إن ابن ليث أصابه سبع ... فصار من جحره إلى خيسه .
وأنشدني الأديب أبو القاسم مهدي بن أحمد الخوافي قال : أنشدني الشيخ أبو نصر لنفسه : قال : وكتب به إلى شمس الكفاة :