ثم إذا خط صاحب غرض ببنانه على ظهر كفه وقف على المراد وجعل ينوب البنان عن الأنبوب المغموس في المداد حتى كأن تحت كل شعرة من شعرات بدنه واعياً مصغياً بأذنه وذاك لعمري كالرقم على بسط الماء أو كالنقش على الهواء بالهباء . وقد افتن الفضلاء في مدحه بالطرش وقد قالوا فيه ما ينوب مناب الماء عند ذوي العطش . وأبرع وأبدع وأجمع ما قالوا في معناه قول والدي C : .
قالوا : علي بدا في سمعه خلل ... فقلت : عند استماع الفحش والخطل .
بل كان طود الحجى صل الدهاء قنا الط ... طراد في الرأي والإنذار والجدل .
وكتبت إليه رقعة أستهديه ما يليق بكتابي هذا من غرره ودرره فأجابني بفصل قال فيه : " لولا أن أمر فلان سميي وكنيتي ووليي لاأزال كاسمه علياً لا يقابل إلا بالأمتثال ولو بقلم الاستعجال والارتجال لصنت كتابه العزيز عن مقولاتي ومنقولاتي ولكن : .
قلت لما كتبته غير راض ... ربما كان للقبيحة بخت .
قال : فمما قلته في ابتداء مطلع مديح مولانا الصاحب الأجل نظام الملك C وكان ذلك في يوم مطير قولي فيه : .
طلع الوزير فزاره الغيث ... عجلان ما في صوبه ريث .
لم لا يزور الغيث ذا كرم ... عبداً يداه الغيث والليث .
وأنشدني لنفسه في خدمة نظامية له : .
يا من به نظم الممالك كلها ... وبرأيه راياتها منصوره .
حقق رجاء الزواهي بنظرة ... فعليك آمال الورى مقصوره .
ولما مني بالوقر الذي نسبته إليه في ابتداء ذكره قال : .
إلى كم أشتكي وقري كأني ... وحيد في الأذى من غير ثان .
ولم لا أكتسي صبراً جميلاً ... وحسن الصبر للحدثان ثان .
ولكن كيف أحتمل الرزايا ... بجسم مثل واحدة المثاني .
أزل فقري ووقري يا إلهي ... بحق الرسل والسبع المثاني .
وله في بعض ما ناجى به ربه : .
دعواتي ناجيات ... بك عن ذل الحجابه .
لأنادي في بلادي ... دعواتي مستجابه .
وردت بابك ظمأى ... فاسقها ماء الإجابه .
وأنشدني لنفسه : .
لا أنسى يوم العيد يحجب وجهه ... عني وعمداً كنت قد قابلته .
نلت الأماني كلها لو أنني ... مثل الذي قابلته قبلته .
وله يخوف بعض الجبابرة مجانيق الأشعار : .
أدعو عليك ولا أرا ... ك تخاف عادية الدعاء .
ولدعوة المظلوم مضطرب فسيح في السماء .
وقال يرثي ولداً له اسمه صاعد توفي وهو ابن أربع سنين : .
يا صاعداً قلل المنا ... يا قبل وقت صعوده .
ومفارقاً دار النحو ... س إلى مقيل سعوده .
لو كان موت مخلفاً ... للحي في موعوده .
أبقى عليه ولو بجدته ونضرة عوده .
لكن ذلك منهل ... لا مكث دون وروده .
وقد كانت له والدة من القانيات العابدات منهل البقاء سنين حتى ناطح في ظلال بركاتها الستين . ولم يزل معناه بها مصعد الدعوات المقبولة ومهبط البركات المأمولة . وكنت أنا شديد الاستظهار بدعائها فقد أنزلتني منها بمنزلة بعض أبنائها . وفجع الفقيه أبو الحسن بها وسلب برد الحياة بسببها . فلم أر شيئاً أشبه بطفل مفطوم منه حنيناً إليها وعضاً للأنامل عليها . فمما أنشدني لنفسه من مراثيه فيه قوله : .
بمقبرة الحسين أزور أمي ... ونار القلب تستعر استعارا .
أروي قبرها دمعاً وأروي ... دع العبرات تنهمر انهمارا .
وقوله : .
وإني لآتي قبر أمي فأشتفي ... برؤيته والوجد في شديد .
كما نظرت حنانة نحو بوها ... تسلت به والسقب منه بعيد .
وما أحسن ما قال ابن الرومي في ميمته الفائقة التي لم يرث ولد والدة ولا والداً بأحسن منها : .
وما الأم إلا أمة في حياتها ... وأم إذا ماتت وما الأم بالأمم .
وعارضته أنا بقولي في مرثية والدي رحمة الله عليه بقصيدة غير قصيرة : .
وما الأب إلا الأب ما عاش لابنه ... وآب له طيب الحياة إذا بلي