هو لناصح الدولة أبي محمد الفندورجي من حيث النسب خال ولخد الظرف من حيث الزينة خال ولشائم برق الفضل من حيث النجعة خال . وقد لقيته بنيسابور سنة خمس وعشرين وأربعمائة شاباً طرياً . يفري في النظم والنثر فرياً سرياً وينشر من حلل الخط وشياً عبقرياً . واتفقت له في خدمة العميد طاهر المستوفي إلى الري حركة فأفلحت نهضته وأنجحت ركضته وعاد شاكراً من لديه ومواهبه أملاء يديه . ولو سكت عنه لأنثنت حقائبه عليه . ولم تطل به الأيام حتى اصطفاه العميد أبو نصر بن مشكان لمنافثته وارتضاه لمناقشته . وجمل به ديوان رسائله لما تفرس من النجابة في شمائله وحمله في بعض أسفار الهند معه فحكى لي القاضي أبو جعفر محمد بن إسحق البحاثي قال : " نزلنا ليلة من الليالي على شط حية طامية بعيدة العمق تزل بالأقدام فرض مشارعها وينعي من لا يحسن السباحة نقيق ضفادعها . قال : فشربنا ذات ليلة مع العميد أبي نصر بن مشكان فخلع أبو القاسم عذاره على العقار واستدار لتناوب القدح المدار . وجرت له مع العميد مناظرة في تفسير بيت للمتنبي فكانت تلك المناظرة داعية حتفه إي وربي فاشتد لجاجه واحتد مزاجه وقام من المجلس وقد غلبته السوداء والصفراء وحضرته المنية الحمراء . فرجع إلى مضربه يهز العطف من غلوائه ويرود الأرض فضل ردائه . قال القاضي : وكان عندي أن يد المدام خاطت أجفانه بالمنام . فما راعني في تباشير الصباح إلا غلامه وقد حركني للتنبيه وثكل مولاه باد فيه . وأخذ بيدي فخاصرته إلى الشط . وإذا أنا به ورب السماء طافياً على وجه الماء طفو القذى . وهل تكون المحنة إلا كذا ورمى الغلام بنفسه إلى الحية سابحاً إليه وأعلقه أنامل يديه واجتذبه إلى الساحل نائحاً عليه فرق القلب لذلك الصديق ثم لذلك الرقيق وقد شق القميص على لبته وشوى مآقيهما بالمطر وتختنق تراقيهما بالوتر . أما أنا فقد عجبت إذ سمعت أن نهراً أغرق بحراً فاستنبطت معنىً غريباً إذ حكوا لي من أمره حالاً عجيباً ؛ زعموا أن سفينة فوائده كانت معه في الماء الذي ابتلعه فقلت : يا عجباً كيف غرقت نفسه المسكينة وفي كم قميصه السفينة وله شعر حسن ضاع أكثره ويكفيك منه أثره . فمنها ما أنشدنيه لنفسه وهو معنى لم يسبق إليه : .
دعني أسر في البلاد مبتغياً ... فضل شراء إذ لم يفر زانا .
فبيذق النطع وهو أحقر ما ... فيه إذا سار صار فرزانا .
وكان في بيت كتبي قصيدة له بخطه علق بحفظي منها بيت لا يكاد ينقضي إعجابي به وتعجبني منه وهو : .
حمر يدي بالكاس فالروض مخضر الربا قبل اصفرار البنان .
قلت : أبصر كيف لون زهرات هذا الباغ وكيف تأنى بخلط هذه الأصباغ وبينه وبين الشيخ والدي معارضات ومقارضات منها قصيدة نونية كتب بها إليه ومطلعها : .
بيض الدمى وقفت على الدمن ... ومعهد الحزن أغرى القلب بالحزن .
بانوا بهيفاء يغزو سهم مقلتها ... قلب المتيم في جيش من الفتن .
شمس على غصن هام الفؤاد بها ... يا ويح قلبي من شمس على غصن .
الشيخ الفقيه أبو الحسن علي .
بن أحمد الزواهي .
علم العلم وذو فنونه حتى كأنه أبو قلمونه إذا حاضر بسطنا الحجور لالتقاط الدرر واللآلئ وإذا أملى ترك القراطيس أملاء الفوائد بتلك الأمالي . وإذا وعظ استمال القلوب الشاردة وعظه واودى الأكباد وداواها وعيده ورعده . وإذا نثر فالبلغاء في سكك خدمته متصلون منتظمون . وإذا نظم فالشعراء من حوله منفضون منتثرون . وقد فرع بنيسابور مدة أعواد المنابر الفضلاء في انتساخ خطبه مداد المحابر . واتفق أن الدهر ضرب على صماخه بصمام الصمم فكأن ثقل تلك الحاسة منه زاده خفة أو كأنه أغنمه تفادياً عن استماع الفواحش وعفة ومن عجيب أمره أنه من الصمم بحيث أقول في غيره : .
وأصلخ في منفذي سمعه ... صمام من الصمم المطبق .
فلو نفخ الصور في عصره ... لأفلت حياً ولم يصعق