انعقدت بيني وبينه المودة بهرات سنة خمس وأربعين وأربعمئة . وطال امتزاجه بي حتى انصبغ بي وتأدب بأدبي وقرأ علي واقتبس مما لدي . وكان رحمة الله مولعاً بالآداب الغضة يهصر أغصانها ويشم ريحانها ويقصد جنانها ويفصد دنانها فاتفقت لي عودة إلى هرات سنة اثنتين وخمسين وهو في جوار الله D . فوجدت الأفاضل نجوم سماء انقطع عن مددها البدر وليالي صيام استرق من عددها القدر . فكنت في تلك الكرة الخاسرة كمن رأى سراباً بقيعة وهو ظمآن غصان فحسبه زلالاً حتى إذا جاءه آب الظن ضلالاً وآل الماء آلاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه . كتبت إليه أول ما أبرمت حبل وداده ووثقت بحسن اعتقاده : .
أبو بكر الصديق في العهد مؤنسي ... إذا غار بي خوف المعادين في الغار .
عرضت عليه دين ودي فما نبا ... ولم يتلعثم من جحود وإنكار .
ولم تك منه بيعة الود فلتةً ... فيزعم أن الأمر متفق طاري .
لذلك لم أمنعه من خالص الهوى ... عقالاً وإخلاص الهوى رسمي الجاري .
وبايع يروى قبل هذا مدامناً ... علي أبا بكر وراويه في النار .
وقد صنت عن أمثال ذلك بيعتي ... ففي النصح إعلاني موافق إسراري .
وصنعة هذه الأبيات أني لم أخرج فيها عن الأحوال التي دارت بين أبي بكر وعلي Bهما من المسارعة إلى الإيمان من غير تلعثم وكبوة عما دعته إليه النبوة ومرية فيما حملته عليه المروة . فأجابني أبو بكر الأسفزاري عنها ببيتين له استنبط فيهما معنى من جنس استنباطي وهما : .
سما عليّ في سماء العلا ... وغيره ملتصق بالرغام .
أنا أبو بكر سوى أنني ... معتقد أن علياً إمام .
وله من قصيدة : .
أيا عاذلي لما رآني محرقاً ... إذا لم تبردني فلا تتبرد .
زعمت بأن الشمس تغرب غدوةً ... ومن بطلوع الشمس في ضحوة الغد ! .
فعدت هباءً إن أر الشمس أنتعش ... وأوجد وإن أفقده أحرق وأفقد .
بدا طالعاً دون الثنيّة فارداً ... يبين ويرنو نائراً مثل فرقد .
وأرمد عيني نور شمسي فاشتفت ... إذ اكتحلت من عارضيه بإثمد .
وعطّشني ياقوت فيه فلم أقل ... بتروية الياقوت من غلة الصدي .
الخطيب أبو يعلى القرشي الهروي .
أنشدني الشيخ الرئيس أبو القاسم عبد الحميد بن يحيى الزوزني C قال : أنشدني الخطيب أبو يعلى لنفسه : .
ليس ينفي الهموم غير الحميا ... فاسقياني من كف طلق المحيا .
قهوة تترك السقيم صحيحاً ... وتزيل الهموم محواً وطيا .
ذكراني بها نسيماً وورداً ... ودعاني من ذكر سعدى وريا .
قد دعوت الغلام ثمت نادي ... ت : أدرها ولا تبق عليا .
ومتى عاف واحد منهم الكا ... س فأقبل بها إليّ إليا .
لم أزل قرنها هنالك حتى ... بدلتني والله بالرشد غيا .
فترت مقلتي وأودت بلبي ... وسرت في العظام شيّاً فشيا .
الشيخ أبو نصر أحمد بن محمد .
بن أبي عمرو الباذغيسي .
ولي البريد بهرات أيام الأمير السعيد أبي سعيد مسعود بن محمود رحمهما الله . وعاش في ظلال تلك الدولة بجاه يحل فرق الفرقد لبعد مرقى المرقد . ثم تراجعت أحواله وأخدجت آماله وأمواله ولفظته هرات إلى زوزن ورئيسها أبو القاسم في الدست ويده تقول للمزنة الكلفاء : أنا ولست . ففرش له حجر إنعامه وألقمه ثدي إكرامه حتى انتعش من سقطته وتخلص من ورطته واعتذر إليه الدهر من غلطته . فألقى بزوزن عصا المقام وشج في جواره أوتاد الخيام . وما زال بها في بال رخي وفلك بما يهواه سخي حتى أسن ورق جلده فاستشن وصار كالكروان صك فأكبأن . وانتقل من ظل العافية التي عثر بها في تلك الزاوية إلى الجنة العالية رحمة الله عليه . فمما أنشدني لنفسه قوله يصف تنقل أحواله : .
يا سادتي إن تسمعوا ... في قصتي عجب العجائب .
رعت الهزابر برهةً ... ثم انهزمت من الثعالب .
كنت امرأ زمن الغنى ... جم المآرب في المناقب