قلت : وهذا معنى غريب اتفق له في التماس الغرض المشار إليه فلذلك نصصت عليه . وقد أوتي القاضي أبو محمد C حظاً وافراً من حياته وبلغ أرذل العمر من وفاته فانطحن تحت رحياته . وأثر فيه الهرم تأثيراً نشّف ريّه وأطر سمهريّه وحجب طرفه وإن لم يحجب ظرفه . وكف ألحاظه وإن لم يكف ألفاظه وقصر من خطواته وإن لم يقصر من خطراته حتى كتب في معناها إلى بعض أصدقائه : .
قصة تقصيري فيها قصر ... فأذن لعذرٍ مشبعٍ مختصر .
شيئان عذري فيهما واضح ... سواد حالي وبياض البصر .
وكان مغرىً بالشراب مغرماً بالإطراب يمناه متوجة بكأس الرحيق ويسراه مقرطة بعروة الإبريق . وخمرياته مما يحكم له فيها بالفضل على الحكمي وغزلياته مما يحصل بها مطاوعة الغزال الأبي .
وكتب إليه السيد شرف السادة محمد بن عبيد الله الحسيني البلخي كتاباً صدره بهذه الأبيات : .
لك الخير إن الدهر سلم مسلم ... من الذم مذ خبرت أنك سالم .
وإن زماناً سالمتك صروفه ... زمان بقدر الدين والفضل عالم .
ومهما تحامتك المكاره وأتقت ... ذراك العوادي والخطوب الثوالم .
فإن أنا ظلمت الزمان ظلمته ... وغير زمان قد وفى لك ظالم .
وبعدها كتابي أطال الله تعالى بقاء القاضي الجليل كتاب من عفا عن قلبي أثره وانطوى عن سمعي خبره ومحا رسوم مواصلته القدم وغيّرها الأرواح والديم وهو مع طول العهد واستمرار النأي والبعد ثابت في وداده دائم على اعتقاده متحزم بزمام الثناء والدعاء متمسك بعرا الولاء والإخاء . والحمد لله كفاء حقه والصلاة على محمد خير خلقه جدنا المصطفى وآله .
وقد كنت والدار شاسعة والعوائق متناسقة متتابعة . والمسافة بيننا تكل المطي الخواطر بل تكلّ الأفكار والخواطر والدهر ينقص من زماعي ما أبرم والناس على مرور الأيام تستحكم أتوقع مع ذلك وصاله وأترصد خياله . والشوق يلتهب ضرامه والصبر هيهات مرامه ! .
وربما أنتجع مساقط كلامه ومواقع أقلامه فأتسلى بها قليلاً وأعلل هذا القلب تعليلاً وكيف ظنه بالشوق وناره والقلب وأواره وقد قرب المزار وتدانت الديار . وبيننا مسيرة غاسق لعاشق قد اتصلت بي ريّاه وتمثلي لي محياه . فأحلم بهرات أضعاف ما احتلم الوليد بمنبج وأتشوقها وزان ما تشوق رسوم منعج . ولولا أني أسير حبائل هذه النعمة وحبيس وظائف هذه الخدمة لنهضت نهضة الكرام بل طفرت طفرة النظام بل امتطيت الريح وطويت المهامه الفيح وما على الله أن يصل الحبل ويجمع الدار والشمل . فيبل غليلاً أوقده البعد ويبل عليلاً أكمده الوجد بعزيز ولا عن فضله ببعيد .
الأمير أبو الفتح الحاتمي .
وهو الثقة فيما يؤديه والأمين على ما يذره من هذه السفارة ويأتيه يصدر له حالي واختصاصها ونفسي وإخلاصها ويورد وإن أطنب وأجاد وأبدى وأعاد قليلاً من كثير ما أنا به من ولايته وشرف إخائه متكثر وبجماله معتد مفتخر وعليه من حسن الثناء وصالح الدعاء محافظ وله مراع ملاحظ . فليثق بما يورده عليه ويقرره من هذه الجملة لديه . وقد قيل : رسول الرجل رائد عقله وإذا كان مثله الرسول فلا أدري ما أقول ولا أزيد . فإن تأكدت الحال واتسع المجال وسوغ لي الاسترسال : .
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم .
فإن رأى أن يوقع هذه المباسطة الموقع المعهود من فضله ويبوئها المربع المألوف من كرمه وطوله ويؤنسني كل وقت بخطابه وما يسنح له من أوطاره وآرابه فعل إن شاء الله D : الجواب من القاضي منصور C : .
فداؤك نفسي قد محتني يد البلى ... على أنني فيما ترى العين سالم .
وهيهات ما لي في السلامة مطمع ... ولكنني مستسلم متسالم .
أؤمل أن ألقاك يوماً وليتني ... فيلقى هشاماً سالم الملك سالم .
سلمت ففي ظل السلامة يكتسي ... ملابسها للمكرمات مسالم