وانظر إلى القرآن الكريم والأحاديث النبوية والآثار المروية عن الصحابة والسلف هل تجد الجناس في ذلك كله إلا أقل من غيبة الرقيب ووصل الحبيب ولم اقل هذا غضاً من قدره ولا فضاً لختم سره إذ هو البحر العجاج وفارس الكتابة الذي يفرج بأنابيب أقلامه مضايق العجاج ؛ ولكن لما زاد في استعمال الجناس ضاقت بتردده الأنفاس وأصبح الكلام من القلوب وحشياً ومن الأسماع حوشيا ألا ترى قوله : فلما أراد الله الساعة التي جلاها لوقتها والآية التي لا أخت لها فتقول هي أكبر من أختها أفضت الليلة الماطلة إلى فجرها ووصلت الدنيا الحامل إلى تمام شهرها وجاءت بواحدها الذي تضاف إليه الأعداد ومالكها الذي له الأرض بساط والسماء خيمة والحبك أطناب والجبال أوتاد والشمس دينار والقطر دراهم الأفلاك خدم والنجوم أولاد لما كان هذا خالياً من الجناس عذب في السم وقعه واتسع في الإحسان صقعه ورشفه اللب مدامة وكان عند من له ذوق أطرب من تغريد حمامة وقوله : ورد الكتاب الكري الأشرف الذي كرم وشرف وأسعد وأسعف وأجنى العز وأقطف وأوضح الجد وعرف وقوى العزم وصرف والهج بالحمد وأشغف وجمع شمل الحبى وألف فوقف الخادم عليه وأفاض في شكر فيض فضله المستفيض وتبلج وجه وجاهته وتأرج بنا نباهته ما عرفه من عوارفه البيض وأمنت بمكارمه المكاره وزاد في قدر التايه قدره النابه وافترت مباسم مراسمه عن ثنايا مناجحه ورفد طلايع صنايعه فسر بمين منايحه واسترم على هذا النهج إلى آخره فانظر إلى قلق هذا الترتيب وكل كلامه من هذا النمط وغالب ما ننشئه إذا تحامل السمع له سقط ولم يكلفه هذا أنه يكثر من رد العجز على الصدر كقوله : وسر أولياءه وأولي مسرته وأقدر يده وأيد قدرته وآزر دولته وأدال موازرته وبسط مكنته ومكن بسطته وأسعد جده وأجد سعادته وأراد نجحه وأنجح إرادته وأجل جيله وسر أسرته وحاط حماه وحمى حوطته ولا زال معروفه موال ومواليه معروفاً ووصفه حسناً وإحسانه موصوفاً وألفه باراً وباره مألوفاً وعطفه كريم وكرمه معطوفاً وقد اقتصرت على هذا القدر وقلما يخلو كلامه من هذا النوع الغث والضرب الرث وله رسائل التزم في واحدة الدال في كل كلمة والضاد في الأخرى والميم في الأخرى والشين في أخرى وأشياء من هذا النمط الذي يقذفه السمع ويمجه ويقطعه الانكار ويحجه وديوانه يدخل في أربع مجلدات كبار ومن نظمه : .
وهضيم الكثح في حبي له ... لم يزدني كاشحي إلا اهتضاما .
كرم العاشق فيه مثل ما ... لؤم العاذل فيه حين لاما .
بقوام علم الهز القنا ... ولحاظ تودع السكر المراما .
أتراه إذ تثنى ورنا ... سمهرياً هزام سل حساما .
خده يجرحه لحظ الورى ... فلذا عارضه يلبس لاما .
ويريك الخط منه دايراً ... هالة البدر إذا حط اللثاما .
وكثيب الرمل قد أخجله ... وقضيب البان ردفاً وقواماً .
ويعجبني قوله في أترجة : .
وأترجة صفراء لم أدر لونها ... أمن فرق السكين أم فرقة السكن .
بحق عرتها صفرة بعد خضرة ... فمن شجر بانت وصارت إلى سجن .
ومثله قول الأخر : .
أمسيت أرحم أترجاً وأحسبه ... في صفرة اللوم من بعض المساكين .
عجبت منه فما أدري أصفرته ... من فرقة الغصن أو خوف السكاكين .
ومن هذه المادة قول الغزي : .
كالشمع يبكي ولا يدري أعبرته ... من صحبة النار أو من فرقة العسل .
ويعجبني قوله أيضاً أعني العماد : .
هي كتبي فليس تصلح من بع ... دي لغير العطار والاسكافي .
هي إما مزاود للعقاقي ... ر وإما بطاين للخفاف .
قال ابن ظافر في بدائع البداية : أخبرني الشريف فخر الدين أبو البركات العباس ابن محمد العباس الحلبي قال أخبرني القاضي الأجل عماد الدين أبو حامد محمد الأصفهاني كاتب الملك النصار نور الله ضريحه قال : كنت أعشق بالموصل صبياً سراجاً وكان يواصلني فكلما استويت على عرشه قال لي : اكتم علي ولا تنطق بحرف ويزيد في ذلك فصنعت في بعض الأيام بديهاً : .
فديت سراجاً إذا لم يرج ... للوصل عندي أحد راج هو