ونقل إلى قضاء القضاة بحلب ومدارسها فأقام بها مدة أكثر من سنتين واشتغلوا عليه بها وما رأى الناس بعد دروسه في دمشق مثلها ثم إن السلطان طلبه من حلب ليوليه قضاء دمشق لما نقل قاضي القضاة جلال الدين القزويني إلى قضاء الديار المصرية ففرح الناس بذلك فمرض في الطريق وأدركه الأجل في بلبيس في سادس عشر شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبع مائة فحمله ولده تقي الدين عبد الرحمن إلى القاهرة ودفنه بالقرافة عند الشافعي وله ستون سنة قيل أنه سمّ في الطريق وعند الله تجتمع الخصوم .
وحكى لي القاضي شهاب الدين ابن فضل الله عن ولده تقي الدين أن والده الشيخ كمال الدين قال له : يا ولدي والله أنا ميت وما أتولى لا مصر ولا دمشق وما بقى بعد حلب ولاية أخرى لأنه في الوقت الفلاني حضر إلى الجامع فلان الصالح فترددت إليه وخدمته وطلبت منه التسليك فأمرني بالصوم مدة ثم أمرني بصيام ثلاثة أيام - أظنه قال - افطر فيها على الماء واللبان الذكر وكان آخر ليلة من الثلاث ليلة النصف من شعبان فقال لي : الليلة تجيء إلى الجامع تتفرج أو تخلو بنفسك فقلت : أخلو بنفسي فقال : جيد ولا تزال تصلي إلى أن أجيء إليك قال : فخلوت بنفسي أصلي كما وقفني ساعة جيدة فلما كنت في الصلاة إذا به قد أقبل فلم أبطل الصلاة ثم أنني خيل لي قبة عظيمة بين السماء والأرض وظاهرها معارج ومراقي والناس يصعدون فيها من الأرض إلى السماء فصعدت معهم فكنت أرى على كل مرقاة مكتوباً نظرالخزانة وعلى أخرى وأخرى وأخرى وكالة بيت المال التوقيع المدرسة الفلانية قضاء حلب فلما وصلت إلى هذه المرقاة استفقت من تلك الحالة ورجعت إلى حسي وبت ليلتي فلما اجتمعت بالشيخ قال : كيف كانت ليلتك ؟ جئت إليك وما قصرت لأنك ما اشتغلت بي والقبة التي رايتها هي الدنيا والمراقي هي المراتب والوظائف والأرزاق وهذا الذي رأيتها كله تناله والله يا عبد الرحمن وكل شيء رأيته قد نلته وكان آخر الكل قضاء حلب وقد قرب الأجل أو كما قال .
وكان الشيخ كمال الدين C تعالى كثير التخيل شديد الاحتراز يتوهم أشياء بعيدة ويبني عليها وتعب بذلك وعودي وحسد وعمل عليه ولطف الله به .
ولقد رأيته في الظاهرية وفي يده القائمة من الحساب وهو يساوق المباشرين على المصروف فيسبقهم إلى الجمع وعقد الجملة ويبقى ساعة ينتظرهم إلى أن يفرغوا فيقول : كم جاء معكم ؟ فيقولون : كذا وكذا فيقول : لا ؟ فيعيدون الجمع إلى أن يصح . وعلى الجملة فكان غريب المجموع .
خرج له الشيخ صلاح الدين ابن العلائي عوالي وأربعين وقرأها الشيخ شمس الدين عليه . ومن نظمه قصيدة نظمها يذكر فيها الكعبة المعظمة ويمدح النبي A أولها : .
أهواك يا ربة الأستار أهواك ... وإن تباعد عن مغناي مغناك .
وأعمل العيس والأشواق ترشدني ... عسى يشاهد معناكي معناك .
تهوى بها البيد لا تخشى الضلال وقد ... هدت ببرق الثنايا الغر مضناك .
تشوقها نسمات الصبح ساريةً ... تسوقها نحو رؤياكي برياك .
يا ربة الحرم العالي الأمين لمن ... وافاه من أين هذا الأمن لولاك .
أن شبهوا الخال بالمسك الذكي فهذا الخال من دونه المحكي والحاكي .
أفدي بأسود قلبي نور أسوده ... من لي بتقبيله من بعد يمناك .
إني قصدتك لا ألوي على بشرٍ ... ترمي النوى بي سراعاً نحو مرماك .
وقد حططت رحالي في حماك عسى ... تحط أثقال أوزاري بلقياك .
كما حططت بباب المصطفى أملي ... وقلت للنفس بالمأمول بشراك .
محمدٌ خير خلق الله كلهم ... وفاتح الخير ماحي كل إشراك .
سما بأخمصه فوق السماء فكم ... أوطا أسافلها من علو أفلاك .
ونال مرتبةً ما نالها أحدٌ ... من أنبياء ذوي فضلٍ وأملاك .
يا صاحب الجاه عند الله خالقه ... ما رد جاهك إلا كل أفاك .
أنت الوجيه على رغم العدى أبداً ... أنت الشفيع لفتاكٍ ونساك .
يا فرقة الزيغ لا لقيت صالحةً ... ولا شفى الله يوماً قلب مرضاك