فلما ورد الكتاب على تميم شكَّ في الاسم فلم يعرف أحُنَيس أم حُبَيش ثم قال : انظروا من له مثل هذا الاسم فأُصِيبَ ستةٌ ما بين حُنَيس وخبيش فوجّه بهم إليه قال القاضي شمس الدين أحمد بن خلكان C تعالى : وقد اختلف أهل المعرفة بالشعر في الفرزدق وجرير والمفاضلة بينهما والأكثرون على أن جريراً أشعرُ منه قلتُ أنا : ما مَن يُهاجي الفرزدق وأبوه وجدّهُ كما تقدم ذكرهُما في الفخر والسُّؤدَد ويكون جرير وأبوه على ما تقدم في ترجمة جرير من الخِسَّة والنَّذالة إلا وجرير أشعر بلا شك لمقاومته لمثل الفرزدق ومهاجاته ومفاخرته على أنّه قد قيل للمفضّل الضبيّ : الفرزدق أشعر أم جرير ؟ فقال : الفرزدق قيل له : ولِمَ ؟ قال : لأنه قال بيتاً هجا به قبيلتين ومدح قبيلتين وأحسن في ذلك فقال : .
عجبتُ لِعجلٍ إذ تُهاجي عَبِيدَها ... كما آلُ يربُوع هَجَوا آلَ دارِم .
فقيل له : فقد قال جريرٌ : .
إن الفرزدقَ والبَعِيثَ وأُمَّه ... وأبا البعيثِ لشَرُّ ما إستارِ .
فقال : وأيُّ شيء أهوَن من أن يقول إنسانٌ : فلان وفلان والناس كلّهم بنو الفاعلة ومِن فخر الفرزدق قوله : .
لو أن جميعَ الناس كانوا بِرَبوة ... وجِئتُ بجدّي دارمٍ وابنِ دارمِ .
لظلَّت رقابُ الناس خاضعةً لنا ... سُجواً على أقدامنا بالجماجمِ .
قلت : وأزِيدُك أُخرى وهي أنّ الفرزدق تفرّغ لِهجاءِ جرير وحدَه ولم يهجُ غيرَه وأما جرير فقد هاجى ثمانين شاعِراً وقد أنصف أبو الفرج الإصبهاني حيث قال في كلام طويلٍ آخره : أمّا من كان يَميل إلى جزالة الشعر وفخامته وشدّة أسره فيقدِّمُ جريراً وقال يونس بن حبيب : ما شهدت مشهداً قطُّ ذكر فيه جرير والفرزدق فاجتمع أهل المجلس على أحدهما وقال أيضاً لولا شعر الفرزدق لذهب ثُلث لغةِ العرب وكان جرير قد هجا الفرزدق بقصيدةٍ منها : .
وكنتَ إذا نزلتَ بدارِ قومٍ ... رحَلتَ بخزيَةٍ وتركتَ عارا .
واتفق بعد ذلك أن الفرزدق نزل بامرأة من أهل المدينة وجرى له معها قضية يطول شرحها خلاصة الأمر أنه راودها عن نفسها بعد أن كانت أضافته وأحسنَت إليه مما متنعت عليه وبلغ الخبر عمر بن عبد العزيز وهو يومئذ والي المدينة فأمر بإخراجهِ من المدينة فلما أُخرج أركب ناقةً ليَنفُوَه فقال : قاتل اللهُ ابن المراغة كأنه شاهد هذا الحال حتى قال : وكُنتَ إذا نزلتَ بدارِ قومٍ البيتَ ومن شعر الفرزدق لما كان بالمدينة : .
هما دلّيلاني من ثمانينَ قامةً ... كما انقضَّ بازٍ أقتمُ الرأسِ كاسِرُه .
فلما استوَت رجلايَ في الأرض قالتا ... أحّيٌّ فيُرجى أم قتيلٌ نُحاذِرُه .
فقلت : ارفعا الأسبابَ لا يشعروا بها ... وأقبلتُ في أسباب ليلٍ احادره .
أُحاذر بوّابَينِ قد وُكِّلاَ بنا ... وأسوَدَ من ساجٍ تَصِرُّ مَسامره .
فقال جرير لما بلغه ذلك : .
لقد ولدت أُمُّ الفرزدق شاعراً ... فجاءت بِوَزوَارٍ قصيرِ القوادِمِ .
يوصِّلُ حَبلَيه إذا جَنَّ ليلُه ... ليرقَى إلى جارته بالسلالم .
تدليتَ تَزني من ثمانينَ قامةً ... وقَصَرَت عن باع العُلا والمكارم .
هو الرجسُ يا أهلَ المدينة فاحذَروا ... مداخلَ رجسٍ بالخبيثات عالم .
لقد كان إخراجُ الفرزدق عنكمُ ... طهوراً لِما بين المصلى وواقم .
فأجاب الفرزدق عنها بقصيدة طويلة منها : .
وإنّ حَراماً أن أسُبَّ مُقاعساً ... بآبائيَ الشمِّ الكِرام الخضارمِ .
ولكنَّ نَصفاً لو سَبَبتُ وسبَّني ... بنو عبد شمسٍ من منافٍ وهاشمِ .
أولئك أمثالي فجئني بمثلهم ... وأَعتَدُّ أن أهجو كليباً بدارم .
ولمّا سمع أهل المدينة أبيات الفرزدق المذكورة أولاً جاءوا إلى مروان بن الحكم وهو والي المدينة من قبل معاوية فقالوا : ما يصلح هذا الشعر بين أزواج رسول الله A وقد أوجب على نفسه الحدَّ فقال مروان : لست أحدُّه لكن أكتب إلى من يحده وأمر أن يُخرَجَ من المدينة وأجَّله ثلاثةَ أيام لذلك فلذلك يقول الفرزدق :