وكان من أميَز الخلفاء وأجّل ملوك الدنيا وكان يصلي في اليوم مائة ركعة إلى أن مات ويتصدق كل يوم من صُلب ماله بألف درهم وحدّث عن أبيه وجدّه ومبارك بن فَضَاله وروى عنه ابنه المأمون وكان يحبّ العلم وأهلَه ويعظِّم حُرُمات الله في الإسلام ولما مات ابن المبارك جلس للعَزاء وأمر الأعيان أن يُعزُّوه وخلّف مائة ألف ألف دينار واجتمع له ما لم يجتمع لغيره وزراؤُه البرامكة وقاضيه أبو يوسف وشاعره مروان بن أبي حَفصة ونديمه العباس ابن محمد عمّ أبيه وحاجبه الفضل بن الربيع أتيَهُ الناس وأعظمهم ومغنيّه إبراهيم الموصلي وزوجته زُبيدة قال ابن حزم : أُراه كان لا يشرب النبيذ المختلف فيه إلاّ الخمر المتّفّق على تحريمها ثم جاهر جهاراً قبيحاً ولما مات صلّى عليه ابنه صالح ودفنه بطوس وكان له من الوُلد ثمانية وعشرون أربعة عشر ذكراً وأربع عشرة أُنثى فالذكور محمد الأمين ومحمد المعتصم ومحمد بن عيسى ومحمد أبو يعقوب ومحمد أبو العباس ومحمد أبو سليمان ومحمد أبو علي وعبد الله المأمون والقاسم المؤتمن وعلي و صالح وأحمد السبتي وأبو أحمد هؤلاء الذكور وسُكينة وأم حبيب وأروَى وأم الحسن وحمدونة وفاطمة وأم سلمة وخديجة وأم القاسم ورملة وأم علي ليبق والعالية ورَيطة وذكر الرواة أن هارون الرشيد صنع قُسيماً من الشعر وهو : المُلك لله وحده ثم إنه ارتجّ عليه فقال : استدعوا من بالباب من الشعراء فدخل عليه جماعة منهم الجَمَّاز فقال الرشيد : أجيزوا وأنشدهم القسيم فبدرهم الجماز وقال وللخليفة بعده فقال الرشيد : زِدْ فقال الجماز : وللمحب إذا ما حبيبُه بات عنده فقال له الرشيد : أحسنتَ لم تعدُ ما نفسي وأجازه بعشرة آلاف درهم .
؟ أمير المؤمنين الواثق .
هارون بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أمير المؤمنين الواثق بالله بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور أبو جعفر وأبو القاسم كناه بها المأمون وأمه أم ولدٍ يقال لها قَراطيس أدركت خلافته وماتت فيها بالكوفة سنة سبع وعشرين ومائتين وكانت خرجت للحج ودفنت في دار عيسى بن موسى وكان أبيض إلى الصفرة حسن الوجه جميل الطلعة جسيماً في عينه اليمنى نكتةُ بياضٍ مولده يوم الاثنين لعشرٍ بقين من شعبان سنة تسعين ومائة وبويع له بسُرَّ من راى يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين يوم مات المعتصم بالله وله يومئذ ثلاثون سنة وتسعة أشهر وتسعة أيّام وتوفي بسُرَّ من رأى يوم الثلاثاء أو الأربعاء لخمس بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وصلى عليه القاضي أحمد بن أبي داؤد ودفن بالهُرواني وله ست وثلاثون سنة وتسعة أشهر وخمسة أيام وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وستة أيام وكان كاتبه محمد بن عبد الملك ابن الزيّات وحاجبه ايتاخ ومحمد بن حماد بن دنقش ثم محمد بن عاصم وقيل يعقوب قوصرة ونقش خاتمه صورة أسدين بينهما صورة رجل وقيل صورة وَعل وعلى خاتم الملك : الله ثقة الواثق بالله وكان يقال له المأمون الصغير لشَبَه أحواله كلها بأحوال المأمون وكان أعلم بني العباس بالغناء وله أصوات مشهورة من تلحينه ومن نادر كلامه لشخص كان عاملاً له على عمل نُقِل عنه أنه قال لمن تشفع إليه في قضيةٍ : لو شفع لك النبي A ما شفعتُك . لولا أنّ في خَطاء لفظك إشارةً إلى صواب معناك في استعظامك ووضعِك رسول الله A في غاية التمثيل لمثّلتُ بك ثم أمر أن يُضرب ثمانين سوطاً ورُئيَ الواثق في تلك الحالة وهو يرعِد غضباً ثم قال : والله لا وليتَ لي عملاً أبداً وله شعر حسنٌ منه قوله : .
قالت إذا الليلُ دَجا فأتِنا ... فجِئتُها حين دجا الليلُ .
خفيُّ الرجل من حارسٍ ... ولو دَرى حلَّ به الوَيل .
ومنه : .
تنحَّ عن القبيح ولا تُرِده ... ومَن أولَيتَه حُسناً فزِدههُ .
ستُكفَى من عدوّك كل كَيدٍ ... إذا كاد العدوّ ولم تكِده .
وكان يحبّ خادماً أُهدِيَ له من مصر فأغضبه الواثق يوماً فسمعه يقول لبعض الخَدَم : واللهِ إنّ الواثق ليَروم منذ أمس أن أكلِّمَه فلم أفعل فقال :